ايزدان.. في منتدى المسرح

ثقافة 2021/10/25
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب 
 
تكمن قوة المسرح العراقي في روح المفاجأة والصدمة لدى مسرحييه الذين خرج قسم منهم من لحظات عزلة كهنوتية مريرة او حالة غنوصية (ذاتية) او اقصاء وتهميش مجتمعي وثقافي، فالعرض الذي شاهدته مؤخرا في منتدى المسرح والموسوم (ايزدان) ينتمي لهذه الحالة فاحترافية هذا العرض قادمة من اسماء غير معروفة بهويتها المسرحية الراسخة او ان يكون لديها تاريخ مسرحي وانطولوجيا باذخة من عروض مسرحية سابقة، فريق هاو مغمور من خريجي قسم المسرح/ الدراسة المسائية لكنه محترف بأعلى سمات الاحتراف وسلوكه وصدقه، فالمسرحية امتلكت زمام الضبط الجمالي العال على مستوى الفضاء الانشائي والتصويري للعرض وقدرة ادائية فائقة لممثليه الذين تحولوا الى سحرة او شيء لا يمكن توصيفه الا بالتطابق الحاد بين الفعل وفاعله بين الذات والموضوع بين الداخل والخارج هذه الثنائية التي تجلت في عرض ايزدان في ضوء حكاية اسطورية طالما تكررت على خشبات مسارحنا، أعني بها قصة آدم وحواء وأكل التفاحة والتحول المكاني من الفردوس الى الجحيم بحبكة وحوار كتبه (كرار فياض)، أضاف اليه حبكة واقعية تحكي مشكلات عضوية في جسد مجتمعنا كالارهاب والعنف والاقصاء السياسي.. بفواعل إخراجية مائزة لـ (مهند علي) في انتاج معادل بصري يعكس ثيمة النص الدرامي، فانتصبت في خلف المكان آلة جهنمية تهرس وتتربص الشخصيات بكل ما اوتيت من بطش وقوة تمثلت ببكرات مسننة ومتحركة كأننا داخل آلة ضخمة يديرها كائن خفي، يشدو الممثل الرئيس لشخصية (ايزدان) مثله (مهند علي) برسائل احتجاجية للمتعالي تشي بانسداد العلاقة بين الأرضي والميتافيزيقي في ظل إله سادر أغلق أبوابه بوجه الشخصيات وكأننا امام اطروحة نيتشوية ـ من نيتشة ـ في موت الإله وفقدان تواصلية العلاقة بينه وبين البشر، فيتصاعد البوح بين الشخصية والمتعالي بأفكار وجودية عبثية تارة وتعبيرية في صوغ اطارها الفني والجمالي تارة أخرى، الى ان تدخل شخصية الرجل صاحب العبوة (مثله ضرغام محمد) لتغيير مسار الحدث الدرامي من النسق التجريدي الطقسي الى النسق الواقعي اليومي وطرحها لموضوع الارهاب، إذ نفهم ان الشخصية فقدت ابناءها في انفجار عبوة ناسفة وتريد ان تلتحق بهم، لتظهر الشخصية الثالثة (الايزيدية المغتصبة) مثلتها (اسماء عزيز) لتكمل انشاء الاطار الواقعي وهي تتهم وتدين من فعل فيها تلك الفعلة الشنيعة، كان المحرك للخلفية البصرية للعرض شخصية صامتة تلبس لباسا معاصرا (مثلها مدين مجيد) وهي تحرك البكرات على مدار العرض، وكلما اشتد الاحتدام في مقدمة الخشبة راحت تزيد من سرعة حركة البكرات وسُعارها المحموم والتي اعطت مدلولا ينفتح على نظرية المؤامرة فكل فعل يحدث يقف وراءه فاعل خفي.
 
سيمياء العلامات الدال
انفتح العرض على مدلولات عديدة لعلامات دالة ومثمرة على صعيد انتاج المعنى، فتلك الشجرة اليابسة (شجرة التفاح) شجرة الخطيئة والتي تم ضربها وتكسيرها من قبل الشخصيات، شجرة الانتظار الكبرى ذكرتني بلوحة الشجرة القتيل لـ (جواد سليم) وهي جاثمة تستقبل فؤوس قاتليها بلا رأفة، ومدلولات العبوة الدمية وهي تشي بذاكرة الطفولة المدمرة متحولة من مكان لآخر في فضاء العرض وكأننا في مكان مستديم من الرعب والخوف والفجيعة، وكذا كتاب ايزدان الذي تحول من القداسة والكهنوتية الى كتاب أرضي يمكن مناقشته وحواره وحتى تمزيقه! .. فضلا عن دلالة فتح الباب الجانبية وأكل التفاحة في نهاية العرض في افتراض انتقال الشخصيات لعالم آخر، اما ما هو هذا العالم الجديد؟، هل هي جهنم أخرى أم فردوس موعود؟، فهي أسئلة بقيت مفتوحة الإجابة على المتلقي وتأويلاته.
 
ملاحظات في الأداء التمثيلي 
كان حضور الممثلين الأربعة في العرض طاغيا وأكيدا، وامتلك ثلاثة منهم قوة الوضوح اللفظي والنبر والقدرة الفائقة على التلوين الصوتي والجسدي، فقد قدم الممثلون أنموذجا للتنوع الأدائي السمعي والبصري كان قمينا بأن يرفع من الصورة الكلية للعرض في ذهن المتلقي، ولولا بعض الأداء الممسوس الذي غادرته مدارس الاداء التمثيلي منذ عقود لدى الممثل (مهند علي) وكأنه مضطرب نفسيا او مصروع لاتخذ أداؤه مسارات أكثر تألقا وتوحدا مع الذات، وكان صوت الممثلة البارعة (أسماء عزيز) واضحا إلّا من بعض (مونوتون) شابه في بعض مواضع أدائها ولثغة بشرية محببة في صوتها لا دخل لها بها تحتاج الى مران صوتي مستمر هي ليست بعيدة عنه، وكذا الممثل (ضرغام محمد) وهو يقدم نسقا جادا من الاداء التراجيدي المفجوع بعيدا عن الاداءات المولولة والنائحة كان أداؤه داخليا عميقا بامتياز. 
أخيرا كان لتفرد المنظومة الضوئية للعرض بفواعل المصمم (عباس قاسم) أثر واضح في إبراز النواحي الجمالية (التشكيلية) للعرض وخلق ايقاع بصري دال ومتزامن مع الميزانسين الحركي للممثلين.