ملف الاقتصاد الإيراني.. مسارات بين الإشكاليات الموروثة والإدارة العلمية

قضايا عربية ودولية 2021/11/02
...

 جواد علي كسار
في مراجعة تقويمية ذات نبرة نقدية للاقتصاد الإيراني بين الحال والمآل، أطلقت وكالة "تسنيم" الإيرانية المقرّبة من الحرس الثوري بل المحسوبة عليه؛ أطلقت مقارنة بين هولندا وإيران، تساءلت فيها بمرارة: لماذا بلغت الصادرات الزراعية لهولندا (103) مليارات دولار، مقابل (5) مليارات فقط لإيران، مع أن مساحة هولندا هي (واحد إلى أربعين) من مساحة إيران؟.
 
على الغرار نفسه سارت الوكالة بمقارنتها، لتسجّل أن إمكانات التربة والمياه وسعة المساحة وتعدّد الأقاليم وتنوّع المواسم، تعطي لإيران القدرة أن تتحوّل إلى سلة غذاء لـ(500) مليون إنسان، بينما لا يزيد إنتاجها الحالي عن إشباع الحاجات الغذائية لخمسين 
مليون إنسان فقط. وهكذا فعلت بشأن النفط والغاز والمعادن وبقية الثروات الطبيعية، لتخلص إلى نتيجة مفادها، بأن حصة إيران في التجارة مع دول الجوار، لم تزد حتى بعد ارتفاعها على 2 ٪ فقط، من سوق واردات الإقليم التي تصل قيمتها بحسب تقرير "تسنيم"، إلى (1200) مليار دولار.
 
خاتمي والمشكلات المزمنة
تكاد الدراسات المختصّة وكلمة خبراء الاقتصاد داخل إيران، تجمع على أن مشكلة الاقتصاد الإيراني تكمن بتخلف إدارته، بما في ذلك عدم استقراره على أنموذج واضح ومستقرّ وستراتيجيات محدّدة، ومن ثمّ من الخطأ التأريخ لأزمات هذا الاقتصاد، مع الحصار والعقوبات برغم تأثيرهما 
العميق في أنشطته.
الأزمة في الاقتصاد الإيراني بنيوية، وهي ممتدّة في أزمنته الحديثة قبل الثورة على عهد الشاه الأب والابن (1925 إلى 1979م) كما بعد انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية، وهي "تتمظهر بأمراض مزمنة يعاني منها هذا الاقتصاد"، بحسب وصف الرئيس الأسبق محمد خاتمي. فيوم كان رئيساً خصّص محمد خاتمي (في المنصب: 1997 إلى 2005م) ورشة عمل لدراسة الحالة الاقتصادية لإيران، تكوّنت من خبراء اقتصاديين ومن المسؤولين المعنيين في الدولة ومؤسّساتها، انتهت جهودها بعد أشهر إلى وضع دراسة لمشكلات الاقتصاد الإيراني والحلول المقترحة لها.
لم يكتفِ خاتمي بالجهد الاختصاصي الحكومي وحده، بل طلب عرض مسودّة الدراسة على جميع الأشخاص والمراكز والمؤسّسات والتيارات التي لها رأي في القضية الاقتصادية. ثمّ لم يطمئن ويكتفي بذلك وحده، قبل أن يستمزج آراء الأكاديميين من أساتذة الاقتصاد في الجامعات، ومن له تجربة أو رأي خاص، إذ أنصت إلى خلاصة لما انتهت إليه الورشات، ضمن (26) ساعة استماع خصصها لذلك.
بعد هذه المراجعات التي أعلن عن خلاصتها في حديث متلفز إلى الشعب الإيراني في صيف سنة 1998م، انتهى خاتمي إلى أن الاقتصاد الإيراني يعاني من سبع مشكلات مزمنة، اقترح لها حلولاً في ثلاث عشرة نقطة، ضمن برامج تنفيذية تقع في مديات زمنية ثلاثة؛ قصيرة الأجل، ومتوسطة والخطط بعيدة المدى.
 
ما قبل العقوبات
ما ثمة عاقل في إيران ينكر أثر الحصار المتراكم خلال أربعة عقود، يُضاف إليه العقوبات المكثّفة بعد عام 2018م، لكن الحصار وحده ليس هو مشكلة الاقتصاد الإيراني، في أرقام التضخّم العالية، وانخفاض الإنتاج ومعدلات النموّ، واضمحلال قيمة العملة المحلية أمام الهيمنة المتعملقة للدولار.
على سبيل المثال، تسجّل الإحصاءات الرسمية أن ما دخل إيران من العملة الأجنبية المباشرة، الناتجة عن صادرات النفط والغاز والبتروكيماويات وبقية السلع والخدمات المصدّرة، وصل إلى (1885) مليار دولار، في المدّة بين: 1989 إلى 2019م، يُضاف إليها موارد غير مباشرة بنحو (1567) مليار دولار، لتكون الحصيلة الإجمالية خلال العقود الثلاثة المتأخّرة، نحو ثلاثة ونصف ترليون، أو (3452) مليار دولار.
"بعُشر هذا المبلغ فقط، استطاعت الكثير من البلدان المتخلفة، أن تتخطى تخلفها إلى عتبة النموّ والازدهار"، كما أفاد أحد الخبراء في رسالة كتبها للرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، وذكر أمثلة عليه مما حصل في بلدان مثل الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايوان، والهند وتركيا إلى حدّ ما، كما نقرأ في هذه الرسالة.
 
التضخّم كمثال
بشأن التضخّم مثلاً، فهو مشكلة قائمة بل طاغية في الاقتصاد الإيراني. فعلى مدار الرؤساء الأربعة ما بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، بلغ مداه في رئاسة هاشمي رفسنجاني (في المنصب: 1989 إلى 1997م) 478 ٪، لينخفض على عهد محمد خاتمي إلى أدنى مستوى له عرفته الجمهورية الإسلامية خلال أكثر من ثلاثين سنة، حين بلغ 194 ٪ فقط، ليرتفع مع الرئيس أحمدي نجاد (في المنصب: 2005 إلى 2013م) إلى 353 ٪، ومع حسن روحاني (في المنصب: 2013 إلى 2021م) إلى 359 ٪، ويدخل في السنة الأخيرة من حكم روحاني، والأشهر الثلاثة الأولى من حكم إبراهيم رئيسي، إلى الدائرة الحمراء شديدة الخطورة، وقد فاقت معدلاته 558 ٪ بحسب (مركز إحصاء إيران)، لتسجّل إيران بذلك الرتبة السادسة عالمياً بالتضخّم، علماً بأن معدلات التضخّم في (122) بلدا في العالم هي أقلّ من 3 ٪، بما في ذلك العراق وأفغانستان، ولم يزد نموّه في دول الخليج العربية 
عن 1,1 ٪ في غضون السنوات العشر الماضية. كما أنه في أدنى مستوياته في اقتصاديات أوروبا وأميركا وكندا، والاقتصاديون في تلك البلدان يخطّطون لكي يبقى التضخّم عند هذه الحدود الدنيا، في السنوات العشر القادمة أيضاً.
 
إشكالية الإدارة
تجمع كلمة الخبراء معهم أغلب الطبقة السياسية، إلى أن مشكلة الاقتصاد الإيراني هي في الإدارة وليس في الإمكانات. وإلا فإن "اقتصاد بهذه المثابة من الثروات الطبيعية والإنسانية وتراكم الخبرات، كان ينبغي أن يعطي نتائج أفضل، ولا يعيش هذه المعاناة، لو توفّرت له إدارة ذكية" بحسب وزير الاقتصاد الحالي د. إحسان خاندوزي.
سنضع جانباً التنظيرات الاقتصادية من الخبراء والمختصّين، لنتّجه مباشرة إلى أرقام صريحة لا تقبل التأويل أو اللبس، في الدلالة على الأزمة الإدارية في الاقتصاد الإيراني.
نبدأ مع الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني (1934 - 2017م) الذي ذكر أن "مداخيل إيران من بيع النفط، بلغت على عهد رئاسة أحمدي نجاد (2005 إلى 2013م) حدود (700) مليار دولار، كانت كافية لإيجاد ثورة اقتصادية في البلد، لولا سوء الإدارة"، على حدّ تعبيره.
باعتقاد رفسنجاني، أن إيران كان يكفيها في هذه السنوات الثماني، أن تكتفي بإنفاق (200) مليار دولار فقط، وتحفظ الباقي في صندوق سيادي أو في الاستثمارات الأساسية، وعندئذ لما كان أثّرت فيها العقوبات، لكنها ضيّعت الفرصة، لغياب الإدارة (رسالة المصلحة، ج 1، ص 132، 244).
 
هدر الطاقة
من مظاهر سوء الإدارة هدر الطاقة ولاسيّما النفط والغاز، لجهة الإسراف في الاستهلاك، والدعم الهائل الذي تقدمه الحكومة للمواطن، من دون أن يتحمّل مسؤوليته في الترشيد. 
فإيران تستهلك من الطاقة أربعة أضعاف المعدّل العالمي للاستهلاك الطبيعي، والعائلة الإيرانية تستهلك من الغاز والكهرباء ثلاثة أضعاف المعدّل العالمي.
الشهادة المرعبة التي كان يصعب تصديقها، لولا أنها تكرّرت مرّات، آخرها على هذا الصعيد ما ذكره الخبير الاقتصادي علي رضا سلطاني، في قوله: إن "إيران بعدد سكان يقارب 82 مليونا، تستهلك من الوقود يومياً قدر ما تستهلكه الصين، علماً بأن نفوس الصين، هي بحدود مليار و(300) مليون إنسان"، وهو ما وصفه الكاتب بحقّ؛ أنه "ضرب من كفران النعمة" (صحيفة شرق، بتأريخ 25 أيلول 2021م).
لم يعد سراً أن إيران تعاني من انقطاع التيار الكهربائي، مع أنها تصدّر الكهرباء للعراق، ولها شبكات تكامل مع تركيا وبعض دول القفقاز، وتبلغ بعض التقديرات بقيمة إنتاجها إلى نحو (65) ألف ميكاواط. لكن الإسراف في استهلاك الكهرباء من جهة، والاندثار في معامل الإنتاج وغياب الصيانة والديمومة من جهة أخرى، دفعت رئيس لجنة الطاقة في مجلس الشورى، إلى أن يطلقها صيحة صريحة؛ بأن الاستهلاك والهدر إذا مضى على هذا المنوال، فسيبلغ العجز في غضون السنتين القادمتين، (12) ألف ميكاواط!. (التصريح بتأريخ: 17 تشرين الأول 2021م).
 
إنتاج الغاز وأزماته
إذا بقينا في مجال الطاقة وركّزنا على إنتاج الغاز واستهلاكه، فإن المعلومات الأولية تفيد بأن إيران تملك من ذخائر الغاز الطبيعي في العالم 18 ٪ في مقابل عدد من السكان لا يزيد في أعلى التقديرات على 83 مليونا، أو 1 ٪ من سكان العالم. لكن مع ذلك التقى الخبراء مع السياسيين والمسؤولين المعنيين، على أن هذه الصناعة تواجه مشكلة مزدوجة على مستوى حاجتها للاستثمار، وترشيد الاستهلاك.
بلغة الأرقام، رغم أن إيران هي الثاني أو الثالث عالمياً بذخائر الغاز، إلا أن تقارير مكثّفة راحت تحذّر في المدّة الأخيرة، من إمكان أن يتحوّل البلد إلى مستورد للغاز الطبيعي، في مدّة تتراوح بين 4 إلى 10 سنوات، إذ لم يُصر إلى تجديد أجهزة الاستخراج وترشيد الاستهلاك، بحسب وكالة "تسنيم" المحسوبة على الحرس الثوري.
ينمو استهلاك الغاز في إيران بمعدّل 3,3 ٪ سنوياً، تكفي المقارنة مع الصين لإدراك الكارثة في هذه المفارقة. الاقتصاد الصيني اليوم هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إذ يبلغ (12) ترليون دولار، ويأتي بعد الاقتصاد الأميركي الذي يزيد على (20) ترليون دولار سنوياً، مع ذلك فإن ما تستهلكه إيران من الطاقة يومياً، يساوي ما تستهلكه الصين، كما مرّت الإشارة لذلك، وهذه فاجعة عظمى.
تستهلك إيران من الطاقة سنوياً (150) مليار دولار، بحسب تقرير لصحيفة "خراسان" بتأريخ 23 تشرين الأول 2021م، وهي من أعلى الدول في تقديم دعمها لاستهلاك الطاقة، إذ أفاد تقرير للوكالة الدولية للطاقة بأن إيران تقدّم لمواطنيها سنوياً (90) مليار دولار، لكن رئيس منظمة الميزانية قلل هذا الرقم، إلى (63) مليار دولار (صحيفة اعتماد، بتأريخ 23 أيلول 2021م).
مرّة أخرى تكمن الأزمة في إدارة الاقتصاد، فسوء التخطيط، وإهمال الإنفاق على البُنى التحتية، مقابل الهرولة صوب اقتصاد رأسمالي استهلاكي (وليس إنتاجيا) جعل قطاع النفط والغاز ومعامل إنتاج الكهرباء، تشهد تدهوراً متصاعداً، إذ تجاوز 61 ٪ من حقول النفط، ما يزيد على نصف عمرها، وإذا لم تُعالج هذه البُنى عندما كانت قبل ثلاثين عاماً بحاجة إلى (11) مليار دولار فقط، فقد تفاقمت الأزمة أكثر، وأصبح هذا القطّاع بحاجة لكي يعود لحيويته، إلى ما بين 65 إلى 89 مليار دولار، بل وجدتُ من يتحدّث عن ضعف هذا الرقم، وأنه بحاجة إلى (180) مليارا، لكي يتجاوز أزماته (صحيفة خراسان، 23 تشرين الأول 2021م).
 
هروب الرساميل
عندما تغيب ثقافة الإنتاج في الاقتصاد وتشيع أجواء عدم الثقة، تجد الرساميل فرصتها الأنموذجية إلى الهروب؛ والهروب يكون مرّة إلى الداخل وأخرى إلى الخارج، وكلاهما خطير لأنه هدر لثروة البلد.
تقدّر الإحصاءات الإيرانية أن بيد مواطني البلد ثروة تصل إلى (70) مليار دولار، وثمّ من يصعد بتقديراته إلى (140) مليار دولار. مسارب هذه الثروات الضخمة الفارّة من الإنتاج والهاربة من الانخفاض المتواصل في قيمة العملة الوطنية؛ اتجهت بحسب آخر التقارير إلى سوق العقار والسيارات والأسهم والدولار والذهب، وما تنتجه هذه البيئة من مشاغل وهمية، كالوساطات والدلاليات والمضاربات وما شابه، هذا داخلياً.
أما خارجياً، فهناك ملاذات أو بئر عميقة تهرب إليها الرساميل، سواء إلى دول الجوار الإقليمي ولاسيّما تركيا والإمارات، أو بقية أنحاء العالم. ففي تقارير مثيرة، تحدّث خبراء الاقتصاد في إيران، عن هروب (171) مليار دولار، في غضون (23) سنة الأخيرة.
كمثال لمسارب هذا الهروب، كسر الإيرانيون الرقم القياسي في شراء العقارات داخل تركيا، في منافسة حادّة على المرتبة الأولى، بينهم وبين العراقيين والروس!.
على سبيل المثال، لقد تضاعف شراء الإيرانيين للعقار في تركيا (15) مرّة، في السنتين الأخيرتين (صحيفة اعتماد، 20 أيلول 2021م). وفي إبّان الأشهر التسعة الأخيرة من هذه السنة (2021م) بلغ ما اشتروه بحدود (16) ألف عقار، بحيث قدّرت تقارير اقتصادية مختصّة قيمة ما اشتراه الإيرانيون من عقارات في هذا البلد، خلال السنوات الخمس الأخيرة، ما يصل إلى (7) مليارات دولار (صحيفة خراسان، 28 تشرين الأول 2021م).
 
مساران في الحلّ
إذا تركنا كلام الخبراء جانباً، واقتصرنا على السياسيين وحدهم معهم الفريق الاقتصادي الجديد، فإنهم يتحدثون عن مؤشرات واعدة للاقتصاد، من قبيل تحقيق نسبة نمو تصل إلى 12 ٪، وجرّ الرساميل السائبة داخلياً صوب الإنتاج، وفكّ ارتباط الاقتصاد الإيراني بالدولار وربطه بالإنتاج، وتطوير بُنى الطاقة التحتية، والسعي لبناء محور إقليمي يجعل إيران مركز اقتصاد المنطقة، والاتجاه شرقاً بتعميق التحالف مع الصين وروسيا بدلاً من الإتكاء إلى الغرب وحده، والسعي لاستعادة ما بين 30 إلى 100 مليار دولار من أموال إيران المجمّدة في الخارج، وهكذا إيماناً من هؤلاء بأن أزمة الاقتصاد، كما كانت تأريخياً وحاضراً في الإدارة، فستحلّ من خلال الإدارة أيضاً، وعبر تعديل مساراتها وتصحيح أخطائها.
في الطريق إلى ذلك وضع فريق إبراهيم رئيسي ستراتيجية من مرحلتين:
الأولى: مرحلة قصيرة، ممكن أن تكون متوسطة، من خلال تحقيق الاستقرار عبر التعايش مع المشكلات والتساكن معها، بحسب مير كاظمي رئيس (مؤسّسة الميزانية)، يوم الخميس الماضي.
الثانية: ممارسة عملية تدخّل جراحي جذري ربما تكون قاسية، كما ألمح إبراهيم رئيسي لذلك نهاية الأسبوع الماضي، عند لقائه ممثلي العاصمة طهران.
لقد تحدّث رئيسي عن مراحل أربع لهذه الستراتيجية، تبدأ بتعديل الدعم الضخم الذي تقدّمه الحكومة للطاقة، وحذف الدولار بقيمة (4200) تومان، وتخفيض النمو المتصاعد في إنفاق الحكومة، وأخيراً إصلاح صندوق التقاعد، وهذه خطوات مهمة لو تمّت، تحتاج من بين ما تحتاج إليه، إلى فريق اقتصادي منسجم، يتعامل مع الاقتصاد برؤية موحّدة أو مقاربة على الأقلّ.