التمذهب القومي

آراء 2021/12/06
...

 د. علي المرهج
نقصد بالتمذهب القومي هو أن نجعل من القومية تبدو وكأنها أيديولوجية حتمية ينبغي لكل العرب أن يؤمنوا بها. هنا ستتحول القومية من فكرة لها مقبولية اجتماعية وثقافية لتمنحنا حرية التنوع في الانتماء، لا تقييد الفكر ورفض التعددية الفكرية والحزبية وعدها ضرباً من ضروب الخيانة. 
 
لقد تحولت القومية من فكرة رومانسية بوصفها مثالا قابلا للتحقق إن توافرت له الظروف خارج المشروطية الكولنيالية ورغبات الدول القطرية في ترك هذا الحُلم إلى تمذهب يُقصي التنوع والاختلاف الأثيني والعرقي داخل الوطن الواحد.
لقد حاول القوميون النظر إلى الإسلام والمسيحية على أنهما يشكلان التراث الحيوي للقومية. لكن {اللغة أشد ثباتًا وأكثر دوامًا من الدين}. ما يبرر ذلك اختلاف المجتمع العربي الديني واتفاقهم اللغوي، فمن الممكن أن تُغير الأمم دينها على طول التاريخ، من دون أن يطرأ خلل على وحدتها اللغوية.
إن الربط بين العروبة والإسلام على وفق ما أنزل به القرآن {بلسان عربي مُبين} له مقبولية، لأن الإسلام ساعد في رفع شأن العروبة وحظوتها وحضورها الديني والثقافي، لذا ينبغي الاعتراف بأهمية ما قدمه الإسلام للعروبة، ولكن من الصعب المطابقة بين الإسلام والعروبة، لأن الإسلام دين يخص جماعة وإن كانت هي الأغلبية، لكن العروبة بوصفها التأسيس الثقافي والفكري والحضاري لفكرة القومية ينبغي لدعاتها الخروج من اطار الربط التعسفي للدين بالقومية، وإن كانت {الأمة العربية هي الأمة التي أوجدها الإسلام ولم تكن موجودة قبله}، والوجود هنا بمعنى الحضور والتأثير الحضاري.
حاول الشيخ عبدالله العلايلي الابتعاد عن ربط القومية بالتمذهب القومي فذهب للقول بما أسماه {القومية الاجتماعية} وهي قومية تقوم على وحدة اللغة ووحدة الوطن، ووحدة الزمن في المصلحة، حاضرًا ومُستقبلًا، ووحدة المُثل التي تنبع من المصالح المُشتركة والأدبيات المُشتركة والأهداف المُشتركة، وهو تعريف ذكي من الشيخ العلايلي لأنه لم يربط الدين بالقومية بقدر ما يسعى لربطها بالشعور بوجود رابطة مُشتركة تشد أبناء العروبة بعضهم إلى بعض، فهو ينتقد ربط القومية بالعنصرية كما درج على ذلك اليهود والنازية، فالقومية عنده على النقيض من العنصرية، لأن العُنصرية ترابط فسيولوجي وبايلوجي يؤمن دُعاتها بتفوق عنصر على آخر.
يُؤكد العلايلي أن الدين غير قادر على خلق القومية، كما لم يحفظ ذلك التاريخ، ولكن لا يُنكر أنه يُساعد عليها. ونظام الأكثرية في فرض الدين لا يُعتمد عليه في وضع أساس قومي،...، أما اللغة فهي وحدة أقوى}... 
لقد أكد (جورج طرابيشي) شارحاً لرؤية ساطع الحصري على: {أن وحدة الثقافة، رغم وحدة اللغة، مُهددة في ظل التجزئة القُطرية، ومن ثمّ فهي مطلب لا واقع}، وهذا ما أكدَ عليه فيما بعد (عبدالإله بلقزيز) بقوله: {إن وحدة اللغة لن تكون كافية ـ كي تصنع تجانساً ثقافياً}...(لأن هناك فجوةً بين اللسانيَن العامي والعالِم {الفصيح}).
يُعطي هذا التفكير القوموي (العنصري) مبرراً للأقليات المشاركة في تشكيل الهوية الوطنية للبحث لها خارج التاريخ المعروف والمتداول والتكور حول الهوية الفرعية أو الأثنية لتحتفظ بتمركزها حول الذات وتتطرف حيثما يكون التطرف سلاحا يواجهون به من يُنكر هويتهم الأيديولوجية أو الدينية وحتى العرقية.
لا تخرج متبنيات دعاة الفكر القومي المتمذهب من حيث الجوهر عن مُتبنيات مفكري القومية العربية مع فارق ينبغي الانتباه له والتركيز عليه، ألا وهو أن دعاة القومية العربية كانوا يحلمون بدولة موحدة من المحيط إلى الخليج على أساس منطلقات تخيلية (عنصرية) مثل الدم والتاريخ المشترك، وثقافية (حقيقية) مثل اللغة والثقافة المشتركة في صناعة هوية وطنية توسعت فيما بعد لتكون هوية عروبية.