الثقافة الخفيفة

آراء 2021/12/13
...

 عطية مسوح 
 
لا نقصد بهذا العنوان ذمّاً ولا استهانة بمستوى ثقافيّ معيّن، كما أنّنا لا نريد وضع حدّ فاصل بين مستويين للثقافة لنقول: هنا تنتهي الثقافة الخفيفة وتبدأ الثقافة 
الثقيلة. 
فالمسألة نسبيّة، ومتدرّجة من أبسط المستويات إلى أعلاها، وترتبط نسبيّتها بالزمان والبيئة، أي بمستوى تطوّر المجتمع 
ورقيّه.
نقصد بالثقافة الخفيفة ما يحصل عليه الإنسان دون عناء، أو بقليل من الجهد والعناء. 
أمّا أهمّ مصادر هذه الثقافة فهو علاقة المرء بالناس في ميادين عمله وحياته وما تكسبه إياه هذه العلاقة من خبرات ومعارف، والمدارسُ وما تقدّمه من معلومات، ووسائلُ الإعلام المتاحة وبخاصّة تلك التي يثق الناس بها وينفقون جزءاً من الوقت في متابعتها، ولا شكّ في أنّ أهمّ هذه الوسائل محطّات البث المسموعة والمرئية والصحف والمجلاّت، وما تنشره وسائل التواصل 
الاجتماعيّ. 
ويبدو التدرّج واضحاً في مستوى الثقافة الخفيفة ذاته، فبعض الناس يكتفون بالممتع المُسلّي ويستغنون باللمحات البسيطة والمعلومات الأوّليّة عمّا هو أعلى وأكثر فائدة، وبعضهم يحاولون تطوير حالتهم المعرفيّة ويسعون إلى تنمية خبراتهم والجمع بين ما هو مُسلّ وما هو مفيد مما يتاح لهم الاطّلاع 
عليه.
أمّا ما نعنيه بمصطلح {الثقافة الثقيلة} فهو ما يحصل عليه الإنسان بالسعي والجهد والمتابعة، ليصل إلى مستوى ثقافي رفيع، عامّ أو تخصّصيّ، يجعله قادراً على فهم الظاهرات والمشكلات الاجتماعيّة ومناقشتها، والإسهام في إيجاد حلول مناسبة لها. 
ومن بين حاملي الثقافة الثقيلة ينبثق الأدباء والباحثون والمفكّرون والفنانون وبعض
 السياسيين. 
ومقابل مصادر الثقافة الخفيفة التي ذكرناها نجد أنّ الكتاب لا يزال مصدر الثقافة الثقيلة الأكثر قيمة 
ودوراً.
وإذا كان الحصول على الثقافة الخفيفة عفويّاً لا يخضع لخطّة أو برنامج فإنّ الوصول إلى مستويات ثقافيّة عالية وإلى ثقافة عميقة لا يأتي إلاّ نتيجة نشاط ودأب وخطوات يرسمها الوعي والإرادة معاَ. وحين يصل المثقف إلى درجة جيّدة من الثقافة يصبح مؤهّلاً لوضع اليد على نقاط الضعف في بنيته الثقافية، وبالتالي، يتمكّن من توجيه قراءاته لمعالجة نقاط الضعف وسدّ الثغرات، أي إنّ المثقف كلما أوغل في بحر الثقافة ازداد قدرة على تعميق ثقافته وتوسيعها، وخبرة في تحديد احتياجاته المعرفيّة ومصادر تلبيتها، أي إنه يصبح قادراً على ممارسة ما يُسمّى بالتثقيف الذاتيّ. وقد عالج المفكّر النهضويّ سلامة موسى هذا النوعَ من التثقيف في كتاب خاصّ بعنوان «التثقيف الذاتيّ».
وإذا كانت الثقافة الخفيفة أقلّ عمقاً وأدنى مستوى من الثقافة الثقيلة فهذا لا يعني أنّها عديمة الأهمّيّة، بل لعلّنا نقول: بما أنّها الأوسع انتشاراً، فهي أساس تقوم عليه بنية الثقافة في المجتمع وتتأثر بها الحياة الاجتماعيّة 
كلّها. 
قد يظنّ بعض الباحثين في الشأن الثقافيّ أنّ المثقّفين الكبار، ومنهم ذوو الاختصاص، لا علاقة لهم بالثقافة الخفيفة، وأنّ بُعدهم الثقافي تجاوزها إلى درجة القطيعة 
الكاملة.
 لكنّ إمعان النظر يدلّ على غير ذلك، فكثيراً ما نجد مثقّفين كباراً، أو متخصّصين في فرع من فروع العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة، لا يحقّقون التكيّف مع البيئة الاجتماعيّة التي انبثقوا منها ويعيشون فيها، ولا تجد أفكارهم -- برغم عمقها وأهميتها – طريقاً إلى عقول الناس وقلوبهم، فنراهم يعانون عزلة مقيتة لأنّهم لا يعرفون كيف يمدّون الجسور بينهم وبين 
الناس. 
وإذا بحثنا عن السبب العميق لهذه العزلة فسنجد أنه انسياقهم وراء هموم ثقافيّة كبرى وغرقهم في البحث الأكاديميّ أو التخصّصيّ، لدرجة تجعلهم غير آبهين بالمستوى الثقافيّ الأوّل، أي بالثقافة الخفيفة ذات الأهمّيّة البالغة في الحياة 
اليوميّة. 
إنّ مشكلة هؤلاء المثقفين غير القادرين على التواصل مع مجتمعاتهم هي في اختلاف معاييرهم عن معايير البيئة الاجتماعيّة، فحين يشتقّ المثقف معاييره من قراءاته ومتابعاته الثقافيّة والفكريّة والعلميّة ولا يكترث للمألوف المجتمعيّ والمعايير السائدة يحدث انفصام بينه وبين بيئته، وهو انفصام نسبيّ، قد يكون قليل الضرر عند بعضهم وقد يتعاظم ويصل إلى حدّ الإحساس بالغربة عن المجتمع عند بعضهم 
الآخر. 
ولا يجوز استصغار الأثر السلبيّ لهذه المشكلة، فهي أحد أهمّ أسباب ضعف دور المثقفين والمفكّرين في المجتمعات العربيّة، وأحد أسباب هشاشة هذه المجتمعات وتفاقم أثر الأفكار الأصوليّة والتقليديّة فيها، بل إنّها أحد الأسباب التي سهّلت تعثّر السير في طريق النهضة، والنكوص عن القيم الحداثيّة الذي نعاني آثاره 
المريرة.
ونحن – بطبيعة الحال – لا نقصد أنّ اهتمام المثقّفين بالقضايا الثقافية الكبرى ثانويّ أو غير مطلوب، بل إنّنا نؤكّد أنّه هو الحقل الذي ينبغي أن يجوسوا فيه ويصرفوا إليه جلّ جهودهم، وما نقصده هو أن يُدركوا دور الثقافة الخفيفة في الحياة الاجتماعيّة، وفي البنية الفكريّة للأفراد والجماعات، ليتيسّر لهم التفاعل مع مجتمعاتهم، وليكون نشاطهم مقبولاً وفاعلاً، وبذلك يستطيعون رفع مستوى الناس الثقافيّ، ويجعلون الثقافة الخفيفة أكثر ثقلاً ويضيّقون الفجوة بين ما يهتمّ به الناس وما يهتمّ به المبدعون والمفكّرون. وهذا ما يؤدّي على التدريج إلى تعاظم فاعليّة المثقّفين وزيادة إسهامهم في دفع مجتمعاتنا العربيّة إلى
 التقدّم. 
 
 * كاتب وباحث من سوريا