أحمد عبد الحسين
منذ 2011 نشأتْ في العراق ثقافة احتجاج قويّة تعاظمتْ وبلغتْ ذروتها في انتفاضة تشرين. ميّزةُ هذه الثقافة أنها في أغلبها علمانية التوجّه، ولذا كانتْ غائمة مضببة وعرضة لسوء الفهم.ذلك أنّ السواد الأعمّ من المؤمنين طاب لهم أنْ يقرؤوا العلمانية بوصفها كفراً وإلحاداً. حرّضتهم على هذا الفهم الساذج ماكينةٌ دعائية مرتبطة بالأحزاب. في المقابل فإنّ جمهرة الشباب المحتجين بادلوا هذا الفهم القاصر بفهم أشدّ قصوراً، كانوا يتقذرون مما هو دينيّ ويسخرون من كلّ متديّن.
يقول المتديّن: إنّ العلمانية كفرٌ فيُصادق المحتجّ على قوله و"نجهل فوق جهل الجاهلينا" كما في البيت الجاهليّ الشهير. وهكذا كنّا جميعاً أسرى خفّة العقل المتبادلة بين الفريقين.لا أتوقّع من شابٍ غاضبٍ عاطل عن العمل أن يكون قرأ (هابرماس) مثلاً ليعرف دعوته إلى مجتمع ما بعد علمانيّ قائم على مفاوضات وتنازلات مستمرة من الجانبين، وأنّ العلمانية لا تستحق اسمها إلا بعد اعترافها بمرجعية الدين في كثير من المبادئ القانونية والأخلاقية. لكني ألقي باللائمة على مثقفين محتجين غذّوا بإصرار وعنادٍ كلّ هذه الأفكار التي وضعتْ سياجاً من نار بين المتديّن والعلماني وأسهمت في خلق هذا الالتباس وسوء الفهم، وهو سوء فهمٍ لم يبقَ حبيس الهتاف بل كان يؤدي إلى المستشفى أو المقبرة.بيننا رجال دين لا يفقهون إلا شعار "العلمانية كفر وإلحاد" وبيننا مثقفون يصادقون ـ بدراية أو بسفاهة ـ على هذا الشعار ويؤكدونه، ليؤسسوا معاً علمانية صبيانية طالما كانت هي الجرح السريّ الذي فتك بأية محاولة للوصل بين الضفتين.
قلّة من الغرباء حاولوا، بتنازلات كبيرة، أن يعيدوا الرشدَ إلى روّاد هذه الحفلة الصاخبة. لكنهم لم يفلحوا، فالغلبة دائماً للصوت العالي، الغلبة للزعيق الذي يصمّ الآذان والأفهام.