عودة العلاقات بين الشرق والغرب إلى «عقدة أوراسيا»

قضايا عربية ودولية 2021/12/16
...

• جواد علي كسار
عندما أعلن عن استقلال أوكرانيا وانفصالها عن الاتحاد السوفياتي، بتأريخ 24 آب 1991م، بلغ من فرحة السياسي الأميركي زبغنيو برجنسكي، وأبرز منظري الستراتيجية الأميركية خلال العقود الأربعة الأخيرة؛ أن قدم معادلة محرجة لمستقبل روسيا، صاغها بأسلوب حاصر، حين قرّر بأن روسيا بدون أوكرانيا لم تعد تشكل "إمبراطورية أوراسية"، ومن ثمّ فإن الشرط الأول لعودة روسيا إلى نسق الدولة الإمبراطورية على طريقة الاتحاد السوفياتي المنهار، أو الطريقة الأميركية الحالية، هو استعادة أوكرانيا،
وهذا برأيه هو السبب العميق للصراع الروسي - الأوكراني، والعلة الحقيقية للأزمات المتفجرة بين البلدين إبّان ربع قرن مضى، بما في ذلك الأزمة الحالية.
 
نظرية أوراسيا
لم يكن موقف برجنسكي (1928 - 2017م) بخروج أوكرانيا عن المدار الروسي، قصة لحظة انفعالية عابرة، بل هي إشارة إلى نظرية ستراتيجية مكثّفة في العلاقات الدولية، تعزيزاً لقيادة أميركا للعالم، كما بسط القول عنها وقدّم لها تكييفاً نظرياً منهجياً، ضمن كتابه العتيد: (رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأميركية وما يترتب عليها جيواستراتيجيا) وهو الكتاب الذي صدر بالإنكليزية عام 1997م، وتُرجم إلى العربية، وتكرّر طبعه مرّات بالإنكليزية والعربية.
واحدة من أبرز الأطر النظرية للتحليل والتوصيف والتنبؤ عند برجنسكي، هي نظرية "أوراسيا"، من دون أن يعني ذلك أن هذه النظرية من بُناة أفكاره، لأننا نعرف تماماً أنها اقترنت مع ولادة "الجيوبولوتيكا" وازدهار هذا العلم في العلاقات ما بين الأمم، خلال القرن الميلادي الأخير. تعني هذه النظرية ببساطة، أن أوراسيا (آسيا وأوروبا) هي مركز القوّة العالمية، وهذه حقيقة عايشها العالم منذ ما يقارب خمسمئة سنة، ولم يطرأ عليها تغيير حتى الآن، باستثناء دخول القوّة الأميركية خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودورها كقوّة توازن، كما يسجّل برجنسكي.
 
خصائص أوراسيا
من دواعي تركيز برجنسكي على مفهوم أوراسيا، ما تحظى به هذه الرقعة الممتدّة من موقع ستراتيجي، يُدار من خلاله العالم. فأوراسيا هي القارة الأكبر في العالم، وهي محور العالم جغرافياً، ومن ثمّ فإن القوّة (الدولة) التي تحكم أوراسيا، سوف تسيطر على اثنتين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدّماً، والأوفر في الإنتاج الاقتصادي.
ليس هذا وحده، بل توحي نظرة سريعة إلى الخريطة؛ أن السيطرة على أوراسيا تستتبع إخضاع أفريقيا، على النحو الذي يجعل نصف الكرة الغربي وأوقيانوسيا في وضع ثانوي، بالنسبة إلى القارة الرئيسية أوراسيا. أضف إلى ذلك أن 75 ٪ من سكان العالم يعيشون في أوراسيا، وفيها معظم ثروات العالم، إذ يبلغ الدخل  القومي السنوي لأوراسيا ما يزيد على 60 ٪ من إجمال الدخل العالمي، كما أن مصادر الطاقة فيها تساوي تقريباً، ثلاثة أرباع موارد الطاقة الإجمالية المعروفة في العالم.
لا ينسى برجنسكي أن يذكّرنا بأن أوراسيا هي موطن الدول الأقدر سياسياً والأكثر حركية، فبعد الولايات المتحدة، تحتضن هذه الرقعة أقوى ستة اقتصادات، وأكثر ست دول إنفاقاً على التسلّح العسكري. كما تضمّ أوراسيا جميع الدول النووية المعلنة في العالم عدا واحدة، وفيها كلّ الدول النووية غير المعلنة باستثناء واحدة. ثمّ إن الدولتين الأكثر سكاناً في العالم، والمرشحتين للهيمنة الإقليمية وللنفوذ على العالم، هما أوراسيتان، وبصورة إجماعية فإن قوّة أوراسيا تفوق بحسب برجنسكي، قوّة أميركا إلى حدّ كبير، لكن ما يمنعها من أخذ زمام القيادة العالمية بدلاً من أميركا، هو سعتها المرهقة وعدم توحّدها سياسياً، ومن ثمّ صارت أوراسيا هي جائزة أميركا، على حدّ وصفه.
 
أوكرانيا وقلب الأرض
أوراسيا هي الإطار العام الذي ينتقل منه برجنسكي، لتحديد الدور المصيري لأوكرانيا في العلاقات الدولية، لاسيّما ما يرتبط بمستقبل روسيا، ومصير العلاقات بينها وبين الغرب، بشقيه الأوروبي والأميركي.
الحقيقة التي صدمتني، أن برجنسكي لا يبدع من عنده هذا الدور المحوري لأوكرانيا، في الصراع بين الشرق والغرب، ليس عجزاً منه، فهو بالتأكيد يتوفر على جهاز عقلي صلب، وقدرات منهجية خلاقة، تضعه بالإضافة إلى تجربته المباشرة في العمل السياسي، في طليعة المنظرين الستراتيجيين بأميركا، بل يعود السبب وراء ذلك، إلى وجود أنموذج تنظيري قادر على وصف الظاهرة الأوكرانية، وإعطائها الإطار التفسيري الذي تحتاج إليه.
يعود هذا الأنموذج ببساطة إلى الجغرافي البريطاني هالفورد ماكندر (1861 - 1947م) ونظريته الأشهر عن "القلب الأرضي". ملخص هذه النظرية، تصويره الأرض وبقعة اليابسة، كجزيرة في محيط العالم المكوّن من المياه، وأن نقطة ارتكاز هذه الجزيرة، هو القلب الأرضي، الذي يمتدّ من حوض الفولجا في روسيا حتى شرق سيبريا، يضمّ فيما يضمّه أوكرانيا، بالإضافة إلى بلدان أُخر مما دخل بعدئذ في نطاق روسيا الأوروبية، ضمن الاتحاد السوفياتي وفي محيطه.
بعد مجموعة من التفاصيل عن الجيوبولوتيك العالمي، انتهى ماكندر، إلى نظريته ذات الأركان الثلاثة، وهي:
1ـ من يحكم شرق أوروبا يتسلط على منطقة القلب.
2ـ من يحكم منطقة القلب يتسلط على الجزيرة العالمية.
3ـ من يحكم الجزيرة العالمية يتسلط على العالم كله.
يقول المعنيون بجيوبولوتيك العالم، أن الإنكليز والأميركان لم ينتبهوا إلى هذه النظرية، بعكس الألمان الذين تلقفوها سريعاً، وكان الدور الرئيس في ذلك لكارل هوسهوفر (1869 - 1946م) الذي أسس بعد عام 1920م معهد "ميونخ للجيوبولتيكا"، والتقى بهتلر لأوّل مرّة سنة 1923م، عندما كان هتلر سجيناً في قلعة لاندزبرج، منهمكاً في تأليف كتابه الأشهر "كفاحي". وقد توطّدت العلاقة بين هوسهوفر وهتلر بعد تأسيس الرايخ الثالث، وقدّمت الحكومة دعماً مالياً لمعهده الجيوبولتيكي، قبل أن تعيّنه رئيساً للأكاديمية الألمانية سنة 1934م.
التبنّي الألماني لنظرية ماكندر ومعادلته الثلاثية، عبر الدور المتميّز لكارل هوسهوفر، هو الحافز الستراتيجي النظري الذي منح ألمانيا النازية، الرغبة في السيطرة على أوكرانيا والأراضي السلافية وبضمنها روسيا، سعياً وراء نظرية ماكندر، في أن من يسيطر على أوروبا الشرقية، تكون له السيطرة على العالم.
 
أوكرانيا والمحاور الخمسة
ما تمخض عن سقوط جدار برلين عام 1989م وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991م، أدّى إلى مجموعة تغييرات مهمّة في جيوبولتيك أوراسيا، نجمت أساساً عن خروج الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفياتي من قبضة موسكو، وإعلانها السيادة الذاتية والاستقلال، وهذا ما حصل بالنسبة إلى أوكرانيا التي أعلنت عن سيادتها في 16 تموز 1990م، وعن استقلالها بتأريخ 24 آب 2991م.
جعل هذا المتغيّر أميركا أمام مفهوم جيوستراتيجي جديد، وضعها كقوّة منفردة على رأس النظام العالمي، الذي نشأ على أنقاض نهاية الحرب الباردة. في الطريق إلى تحقيق الموقع الجيوستراتيجي المطلوب، وضع برجنسكي على منضدة أصحاب القرار الأميركي، عدداً من خمسة لاعبين رئيسيين، هم بمنزلة الأقطاب المحتملين للنظام السياسي الدولي الجديد، مضافاً إلى خمس دول محورية جيوبوليتيكية، في الخريطة السياسية الجديدة لأوراسيا.
اللاعبون الخمسة الرئيسيون، هم فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند. والملاحظ على هذا التصنيف، أنه أخرج من عداد الدور العالمي كلاً من بريطانيا أوروبياً، واليابان آسيوياً.
أما الدول الخمس التي تلعب دور المحاور الجيوبولتيكية الثابتة، وتنهض بأدوار مهمّة إلى حدّ خطير، فهي وبحسب تسلسل برجنسكي، أوكرانيا وآذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران.
 
خطورة أوكرانيا
قبل أن نقف على بعض الحقائق الجيوبولتيكية، التي ترتبط بأوكرانيا وسرّ أهميتها لروسيا منذ ثلاثة قرون، نلبث قليلاً مع بعض التصريحات الغربية، التي تكشف خطورة هذا البلد في تحوّلات النظام الدولي، لاسيّما في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، وعلى نطاق مصير القارّة الأوروبية تحديداً.
فقد صرّح المستشار الألماني الأسبق هلموت كول (مستشاراً: 1982 -  1998م) في شهر أيلول 1996م، إلى القول: "إنّ المكان الثابت لأوكرانيا في أوروبا، لم يعد قابلاً للتحدّي من قبل أي شخص. وأن أحداً لن يكون قادراً بعد الآن، أن يُناقش استقلال أوكرانيا وسيادتها على أرضها". أما وزير الدفاع الأميركي الأسبق، على عهد كلينتون، وليام بيري فقد عدّ أوكرانيا المستقلة عن روسيا، شرطاً لاستقرار أوروبا، حين صرّح في تموز 1996م: "لا أستطيع المبالغة في تقدير أهمية أوكرانيا بوصفها دولة مستقلة، لأمن كلّ أوروبا واستقرارها". لذلك كله دأبت التصريحات الصادرة عن واشنطن، لوصف العلاقة الأميركية - الأوكرانية، بأنها: "شراكة ستراتيجية".
 
الكنز الأوكراني
تُعدّ أوكرانيا من بلدان أوروبا الكبيرة، إذ تبلغ مساحتها 603,628 كم؛ أي تزيد على مساحة بلدنا العراق بنسبة الثلث تقريباً، وهي على سبيل المثال أكبر من فرنسا، ومن أسبانيا ومن السويد، وتُعدّ ضعف ألمانيا، وكلٌ من إيطاليا وبولندا. تعود خلفية العلاقة بينها وبين روسيا إلى (300) سنة مضت، على ضوء الوحدة العنصرية والأثنية بينهما، فكلاهما سلافيان. وبذلك تدخل أوكرانيا بالأساس التكويني للهوية الروسية إثنياً وسياسياً. لهذا السبب جاء الإصرار الأوكراني بعد الاستقلال عام 1991م، للتركيز على التكامل الاقتصادي كسبيل وحيد للعلاقة مع روسيا، دون الجانب الثقافي، لتفرّغ فكرة "الاتحاد السلافي" من أي معنى عملي. فقد أراد الأديب المعارض الروسي الكسندر سولجنيتسين، (ت: 2008م) أن يخدم السلافية عبر الرابطة الثقافية بين شعوبها، بعيداً عن السياسة وأطرها، لكن رفض أوكرانيا أفقر الأطروحة عملياً، إذ لم يعد أمام روسيا في هذه الوحدة على الأساس الثقافي المرتكز بدوره إلى الوحدة الأثنية، إلا بيلاروسيا لتتعامل معها على هذا الأساس.
 
قطع الصلة بأوروبا
من مأثورات الستراتيجيين، أنه ليس بوسع روسيا أن تكون في أوروبا من دون أوكرانيا، ومن ثمّ لعب هذا البلد دوراً في إسباغ الطابع الأوروبي على روسيا، فكانت أوكرانيا هي الجسر إلى "أوربة" روسيا.
انتهت هذه المهمّة باستقلال أوكرانيا، عندما تحوّلت إلى جزء صلب من أوروبا الوسطى. ثمّ بدأت التجاذبات؛ أوروبياً بمسعى إدخال أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وأميركياً بسعي واشنطن لضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو؛ وروسياً باجتراح رابطة الدول المستقلة، كإطار لتجمع الدول التي انفكّت عن الاتحاد السوفياتي المنهار، والإبقاء عليها تحت مظلة التبعية لموسكو ومركزيتها، أو من خلال اتحاد الدول السلافية، أو عبر منظومة أوراسيا. بيدَ أن هذه الأطر فشلت جميعاً على المستوى الروسي، وأخفقت أميركياً حتى الآن، على مستوى ضمّ أوكرانيا إلى الناتو.
يُخطئ من يظنّ أن أوكرانيا قد استسلمت لقدرها، بل هي في معركة دائمة لتعزيز استقلالها ضدّ روسيا، وتعي ما تفعل من خلال إدراكها لأهميتها، بعكس ما يحصل في العراق مثلاً، الذي أضاع البوصلة، ولم يعد يستفيد من خصائصه ومزاياه.
لقد دخلت أوكرانيا منتصف تسعينيات القرن الماضي، على خطّ تعويق مشروع روسيا في رابطة الدول المستقلة، بإيجاد تكتل من دون اسم، محوره بالإضافة إلى أوكرانيا نفسها، أوزبكستان وآذربيجان وتركمانستان، وأحياناً كازاخستان وجورجيا ومولديفيا، بلغ حدّ التوقيع على اتفاقيات عن التعاون 
العسكري.
 
أزمة روسيا
الحقيقة إن استقلال أوكرانيا لم يضعف روسيا وحسب، بحرمانها من مزايا سيطرتها التأريخية على البحر الأسود وبحر البلطيق، عندما كانت "أوديسا" باباً لها، للتعامل مع حوض البحر المتوسط والعالم الواقع من ورائه؛ بل أدّى أيضاً إلى استيقاظ محور القوقاز (جورجيا، أرمينيا، آذربيجان) ومن ثمّ تحسين فرص نفوذ تركيا وإيران، إلى تلك المنطقة وتصاعد دورهما.
لقد أصبحت روسيا من دون أوكرانيا أكثر آسيوية، وأقلّ أوروبية، وكلما تعزّز استقلال أوكرانيا اتجهت للتفاعل أكثر مع المدار الأوروبي، عبر الاتحاد الأوروبي سياسياً وثقافياً واقتصادياً؛ والتفاعل مع أميركا، عبر الناتو. وهذا مأزق لروسيا، يدفعها لكي تفقد في المقابل أوروبيتها، أو أن تصبح دولة أوراسية منبوذة، فلا هي من أوروبا ولا هي من آسيا، بل تغوص في وحل النزاعات، كما تمنى لها ذلك برجنسكي.
بتعبير مكثّف؛ تقلصت أمام روسيا خيارات استعادة النسق الإمبراطوري، باستحالة إعادة الزمن إلى الوراء وإحياء الاتحاد السوفياتي؛ وأيضاً بفشل رابطة الدول المستقلة كإطار لاستعادة نفوذها السياسي، وضعف اتحاد الدول السلافية كرابطة ثقافية وفكرية، تعيد صلتها ببعض الجمهوريات المنفكّة عنها، بالأخصّ أوكرانيا، وكذلك بفشل مساعيها لتزعّم محور أوراسيا، لاسيّما لسكان آسيا الوسطى. وقد حصل ذلك كله بسبب رئيسي من أوكرانيا، ليعيدنا ذلك إلى المقولة المأثورة: روسيا مع اوكرانيا إمبراطورية، ومن دونها تفقد النسق الإمبراطوري.
 
وثائقي بوتين!
كعادتها انشغلت وسائل الإعلام بالفيلم الوثائقي الأخير عن بوتين، بالتركيز على جانب الإثارة، فيما ذكره من أنه اشتغل أحياناً سائق تاكسي، لكي يؤمّن معاشه غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنها أهملت تأكيده مرّات على خسارة روسيا التأريخية بتفكك جمهوريات ذلك الاتحاد، وأنه الحدث الأسوأخلال قرن، وما كان ذلك إلا إشارة لخسارة روسيا لأوكرانيا بالأساس، وبقية 
الجمهوريات.
كما أغفلت وسائل الإعلام أيضاً التصريح الخطير لبوتين، في مقال نُشر تموز الماضي، وصف فيه أوكرانيا بأنها معقل تأريخي للشعب السلافي، وأن لها مكانة خاصة في تأريخ روسيا، محذراً الغرب من مغبة استخدام "الأراضي التأريخية" لروسيا.