غموض السيرة

ثقافة 2021/12/19
...

  إسكندر حبش*
قد تفضل بعض الحيوات أن تحتفظ ببعض أسرارها، أو ربما نجدها تواريها إلى الأبد، من دون أن يرشح عنها أي تفصيل من التفاصيل. لو تمعنا جيدا في هذا الأمر، لوجدنا أنه لا يشكل سوى دليل فعليّ على غناها -غنى هذه الحياة- وعلى تعقيدات تشعباتها.  لا تملك الحياة أبطالا حقيقيين من دون هذا الغموض «القليل»، من دون هذه «الثقوب السوداء» التي تلفها.
 
فهذه السمة العامة لا تشذ عنها حياة الكُتّاب بل ربما كانت أحد مكوناتها. فأسطورة أرتور رامبو مثلاً كما أسطورة الكولونيل لورنس لم تكن كما هي عليه اليوم، لولا، ربما، تلك اللا يقينيات «البيوغرافية» التي فتحت أمامنا أجنحة المتخيّل. كيف كانت فعلا نشاطات ذلك «الرجل السائر بنعال من ريح»، الحقيقية، في هرر، وكيف كانت غرامياته وبقية أحداث يومه؟، هل استمر في الكتابة أم توقف فعلا؟، هذه الأسئلة التي بقيت حتى اليوم بلا أجوبة محدّدة، صرف عليها العديد من الكتّاب أفكارهم ونظرياتهم. فهم لم يأتوا أبدًا بأشياء ملموسة، بل زادوا الغموض غموضا أو جعلوه أكثر سحرا، لدرجة أن الواحد منّا يتساءل عمّا إذا كان وجود كاتب ما، مهماً، لأنه يخفي أشياء أكثر ممّا يبوح بها.. بالتأكيد، نجد أن كتّاب السير الذاتية، هم أول المشتبهين بذلك. ألم يزيدوا في ضياعنا، في توجيهنا إلى أمكنة أخرى؟،
في أحد كتبه الجميلة (والذي يحمل عنوان «جان – جاك روسو» - 1907)، حاول الكاتب والناقد الأدبي الفرنسي جول لوميتر أن يبرهن أن الاتهامات التي اعتبرت أن روسو قد وضع أولاده في ميتم، هي اتهامات باطلة. في واقع الأمر، وبحسب لوميتر، فإن التقارير الطبيّة التي وضعها الطبيب السويسري ترونشان، الذي أشرف على علاج روسو، أظهرت أن هذا الأخير لم يبح بتلك الاعترافات إلا ليخفي واقعاً أقسى: عجزه الجنسي وعدم قدرته على التناسل (ممّا شكل في ما بعد مصدرا للنميمة قام بها زميله الفيلسوف والكاتب الفرنسي الآخر فولتير).
أما شاتوبريان، ومن جانب آخر، فلم يفعل شيئا في مذكراته سوى محو حياته العاطفية المضطربة، ومن المؤكد أن هذا «الأبيقوري» ذا المخيلة الكاثوليكية قد عاشر بولين دوبومون وجولييت ريكامييه، بيد أنه غيّب بعناية أثر كلّ عشيقاته اللواتي «جرجرهن» وراءه. فهذه الحياة العاطفية، تمتلك سحرا أكبر حين تكون في السرّ. البعض يفشيه، والبعض الآخر يخفيه جيدا. من يعرف حقيقة العلاقات التي ربطت مثلاً بين غوته وبيتينا فون أرنيم؟، ومن يعرف اسم تلك الفتاة، التي وجدت صورتها العارية، بين أوراق الكاتب الفرنسي بول ليوتو، بعد وفاته؟، لقد بحث الجميع عن تلك المرأة ذات الشعر الطويل الذي كان يخفي وجهها ولم يعثروا عليها.
ثمة جزء أيضا من الشعر العربي قد يأخذنا إلى هذا المنحى. وربما تكون الأسئلة التي نطرحها عن الشعر الجاهلي، من تلك الأمثلة البارزة. هل أن ما كتبه امرؤ القيس عن علاقته بابنة عمّه، فاطمة، هي فعلا مثلما تخبرنا بها المعلقة – (وربما كل المعلقات تملك هذا الجزء من غموضها) – أم أنه كان يرغب في تحويل نظرنا عن أشياء أخرى؟، لا بدّ أن السؤال مشروع هنا، مثلما تساءل الأخطل الصغير في القرن العشرين عن عمر بن أبي ربيعة، حين قال في قصيدته «عُمر ونُعم»:
«ليلة ذي دوران، هل كانت كما
حدثت، أم أخيلة وصُورُ 
ونُعمُ هل كانت كما صَوَّرتَ، أم
بالغ في تلوينها المصوِّرُ»...
ثمة أسئلة دائمة تأخذنا إلى هذه المناطق من الغموض. وما البحث فيها إلا إضافة غموض فوق غموض. لكن، في العمق... أي أهمية لذلك كلّه؟ فما من حياة، حتى تلك الأشفّ، تبوح بجميع أسرارها. فأيّ شيء أجمل من حياة تنتهي على سرّ، وبخاصة إذا كان هذا السر حبًّا كبيراً.
* كاتب من لبنان