جدل الثنائيات في حرب العشر دقائق

ثقافة 2021/12/19
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب
عد (بريشت) الحكاية في المسرح (مغامرة في اليومي) بوصفها اعادة ترتيب له على وفق رؤية سياسية واجتماعية تستمد من التاريخ مشروعيتها وتمزج بين الماضي والحاضر للانفتاح على مستقبل ممكن، وارى في نص مسرحية (حرب العشر دقائق) لـ (علي الزيدي) مغامرة في البوح عن المسكوت عنه من الظواهر الاجتماعية، ومنها مفهوم الشهيد والشهادة في لحظة التحول السياسي ذلك المفهوم المنقسم على ذاته مابين ايديولوجيا السلطة وسلطة الايديولوجيا في انشاء نسق ملتبس وموارب وعصي على التصنيف يقصي فئة اجتماعية معينة ضحت بفلذات اكبادها ويعلي من شأن فئة اخرى.
 
 اراد الزيدي في رسالته الدرامية أن يحل هذا اللبس ويفضح هذا التخفي الاجتماعي والسياسي في ضوء حكاية (فابولا) تجري احداثها في باص صغير (كيا) تحمل على مقاعدها اربع شخصيات لها مشاريع مختلفة ورؤى مغايرة لمفهوم الشهادة (الابن والارملة والسائق وهو) كل حسب سياقه الاجتماعي والثقافي فالابن يطير فرحا ـ من منطلق براغماتي ـ بعد ان عد والده المعدوم قبل عشرين عاما شهيدا من الدرجة الاولى متحصلا على تعويض مجز سيقلب مسار حياته من الفقر الى الثراء، والارملة التي فقدت زوجها في الحرب الاولى وهي تنتظر ان يعاد الاعتبار والتقييم له بعد أن اعتبرته السلطات الجديدة قتيلا ذهب ضحية اهواء السلطة ومغامراتها ليس له تعويض مادي او معنوي، والسائق الذي يحاول ان يجد له معنى ووجود وسط هاتين المعادلتين المتناقضتين بوصفه شاهدا على ما جرى ويجري، تسير الاحداث في مركبة متهالكة وقديمة بالكاد ستصل بركابها لحي الشهداء وقبل الوصول يصعد (هو) ـ لا يعنون الزيدي الشخصية باسم دال انما يجعل اسمه مبهما لانتفاء كينونة الشخصية ووجودها داخل فواعل النص ووقوفها محايدة بعيدا عن المشاريع الثلاثة لمفهوم الشهيد ـ الى المركبة ليجلس جوار الابن فتقع عينه على الملف الذي يحمله الابن ويقرأ اسمه الثلاثي المدون على غلافه فيصاب بالدهشة فيخطف الملف من يد الابن فيرى صورته وهو شاب وصورة زوجته فيطير فرحا لهذه المصادفة القدرية العجيبة، وهكذا ينشأ الصراع بين الارادتين ارادة الابن وهي تدفع باتجاه نكران الاب وبقائه شهيدا وبين ارادة الاب التي تؤكد ابوته لولده وتنفي فعل الاعدام والاستشهاد، تبقى الشخصيات مصرة على مشاريعها الثلاثة المختلفة ليعود (هو) ادراجه من حيث اتى، يعرض الزيدي الحالات الثلاث ويطرح اسئلة وجودية فاقع لونها جرئ حضورها هو لا يقدم اجوبة او نهايات حتمية انما يكشف محللا الظاهرة الاجتماعية المتعالقة بشكل عضوي مع المجتمع وهنا يتمرد الزيدي وينشق على سياقه الدرامي واسلوبه الذي ابتدأ به الكتابة للمسرح المنفتح على الميتافيزيقيا والبوح باتجاه المتعالي والحلول الخرافية واللامعقولة لحبكاته الى نسق اخر اعتمد الجدل الفكري والتناقض الاجتماعي الحاد ما بين شخوصه الجديدة وغير بؤرة الصراع وبوصلته من الفرد/ المتعالي الى بنية صراعية جديدة محورها الفرد/ الفرد ببناء درامي ارسطي محكم حاول ان يكسر يقين السرد فيه باتجاه انشاء مشهدية تمثيل داخل تمثيل لكنها لم تكن مبررة دراميا.
غياب النص الموازي
انطلقت القراءة الاخراجية للمخرج (ابراهيم حنون) من مقتربات فكرية تحاول تفكيك مركز الحدث المركبة (الكيا) وتشظيته وتحويله الى قطع ديكورية متشابهة قادمة من تجسيده للمشاريع الثلاثة للشخصيات (الابن الارملة السائق)، ومنطلقاتها لمفهوم الشهادة ولانتاج تنويع بصري للصورة المسرحية وانشاء  ميزانسينات حركية تولد منظورا جماليا يستنطق المحتوى الفكري للنص الدرامي معتمدا التكثيف البصري في التشكيل والتكوين والخط واللون والفراغ، الا أن ما كان ينقص العرض هو (الشغل المسرحي) اي علاقة الممثلين الديناميكية بالفضاء والسينوغرافيا وقطعها المجزأة التي ظهرت كتلا ثقيلة واستاتيكية جامدة على الخشبة غير مولدة الا في ما ندر، والتكرار الممل لحركة الممثلين وميزانسيناتهم السمترية الحادة، وعدم توظيف البعد المنظوري للمكان وخلفيته التي بقيت ثابتة وغير منتجة جماليا مما حد من جماليات الايقاع البصري للصورة المسرحية وبدا النص الاخراجي الموازي في العرض كأنه استنساخ لنص المؤلف، اذ لم يجر الاخراج قراءة دراماتورجية متأنية لنص الزيدي الا في حذف بعض حوارات الابن المتعلقة بمسرحية بيت الدمية والظهور العلني للشخصيات جميعهم في بداية العرض، ولم يستطع الاخراج التخلص من هيمنة النص الدرامي وفاعليته الشعرية والسردية والبنائية والعمل على تحويله من خلال فعل (المسرحة) الى (show) (عرض) لاسيما ان المؤلف اعطى مساحات وبياضات جيدة للمخيال الاخراجي لملئها وانتاج معادلات سمعية وبصرية متنوعة فوجود الباص مثلا ضمن بيئة الشارع وحركة المجتمع يجعل منه مادة دسمة للفعل الاخراجي، ولم ينقذ العرض من رتابته الا في الحركة الاخراجية الاخيرة حين نزل (هو) الى (الرمب) وجثمت الشخصيات في اعلى المسرح، وكأنها تنتظر في محطة مهجورة لتذهب كل منها في باصها المستقل، بمعنى ان الشخصيات بقيت كل منها ضمن مبدأها وفهمها المستقل لمفهوم الشهادة ليبقى (هو) الخاسر الوحيد ضمن هذه المعادلة.
 
حياد الاداء التمثيلي
من أكثر الاشياء التي ينكرها فن التمثيل واللعب المسرحي هو فعل (الحياد)، اي أن يبقى الممثل محايدا في  فعله على الخشبة غير متفاعل او مشارك لزميله على الرغم من انه مضاء ومشاهد من قبل المتلقي بحجة عدم تشتيت ذلك المتلقي، وهذا النص يعتمد مبدأ الثنائيات في بنائه المشهدي في الغالب فكيف يمكن للمخرج العمل مع ممثليه على تفجير الطاقة الادائية الكلية لممثليه في المشهد الواحد، الذي يحتوي على هذه الثنائيات، هنا تكمن براعة الدراماتورجيا الادائية والاخراجية في توزيع الحوار والافعال وابقاء كلية المشهد الجماعية حيوية ومتحركة ايقاعيا لا ان يصار الى نظام العزل الضوئي او ان يقع الممثل في منطقة الحياد وبذلك يصبح مشاركا غير متفاعل، ينعكس هذا الامر على الممثلين اسيا كمال وقحطان زغير وبدرجة اقل الممثلين احمد شرجي ومهند علي والاخير قدم نمطا ادائيا لكاهن او شخصية انطوائية مقطبة الجبين، في حين أن شخصية الابن كتبها الزيدي شخصية مشاكسة فرحة وصاخبة في بداية دخولها ومحتجة غاضبة في وسطها ومتداعية خانعة في نهايتها ، في حين قدمت الممثلة (اسيا كمال) أداء نمطيا بكائيا للمرأة الارملة وكان صوتها ضعيفا ولم تكشر عن انيابها الادائية المعتادة التي شهدناها في مناسبات سابقة، وحاول قحطان زغير أن يكون الصوت الساخر والكوميدي للعرض من خلال استرخائه المحبب وعباراته التهكمية اللاذعة، وتم تصعيد الايقاع السمعي والبصري نسبيا بدخول الممثل احمد شرجي، الذي اضطلع باداء متميز وصوت مسموع وقريحة وجدانية مست عواطف المتلقي خصوصا في المشهد الاخير.