حاملات الأمتعة في سبتة ومليلة

بانوراما 2019/03/10
...

ترجمة: مي اسماعيل
ألقى وفاة امرأتين مغربيتين (أثناء حادثة تدافع) في سبتة الضوء على أوضاع المدينة التي تحتلها اسبانيا شمال المغرب. تكاد المدينة (التي تعاني تبعات التهريب والهجرة غير القانونية والتطرف) تكون أشبه ببرميل بارود ينتظر الانفجار؛ منبها لقضية السيادة القابعة في قلب خلاف دبلوماسي يختمر بصمت بين الرباط ومدريد. 
طالب النواب المغاربة مرارا أن تعمد دولتهم الى وضع حد لمعاناة النساء العاملات على نقل البضائع المُهرّبة من معابر سبتة الحدودية. وإذ يطلق عليهم تسمية "البغال" احيانا؛ تكسب اولئك النسوة قوتهن من خلال تهريب البضائع من المدينة التي تحتلها اسبانيا. وهذا "التطبيع في التعامل مع الممنوعات" أمر استنكره البرلمان المغربي بحضور وزير الداخلية "عبد الوافي لفتيت". فقد دعا النواب لتقديم "حل اقتصادي" لوقف التهريب، ومساعدة اولئك النسوة العاملات ضمن مثل هذا النشاط غير الشرعي ليحصلن على دخل كافٍ. وهو نشاط يتكرر في مدينة مليلة أيضا.
 
تهريب "معلن"
تصطف مئات النسوة يوميا خارج "الجيب الاسباني" لمدينة مليلة؛ منتظرات الفرصة للعمل على نقل البضائع (التي يصل وزن بعضها الى مئة كغم) تحت حرارة الصحراء؛ لقاء أجر لا يتجاوز عشرة يورو يوميا. وقد تكون تلك الامتعة ملابس مستعملة أو أغذية؛ أو أي بضاعة يمكن تهريبها الى داخل المغرب. 
عمل المصور البرتغالي "غونزالو فونسيكا" على توثيق قصة "النساء- البغال"؛ وقد ساءه أن الرواية الوحيدة التي وصلت الى أوروبا عن المدينة تتعلق بالمهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون تسلق الاسلاك الشائكة. لكن المعاملة المشينة لعاملات يحاولن كسب القوت كانت أكثر فظاعة. 
تقدر منظمات حقوق الانسان عدد النسوة اللواتي يمارسن مهنة عاملات لحمل البضائع بين خمسة الى ثمانية آلاف عاملة؛ وتتغاضى الحكومة الاسبانية عن هذا "التهريب المتكتم" لأنه يأتي بأرباح عالية لمدينة "مليلة" المستقلة. تتظر سلطات المدينة لهذا التعامل بوصفه "تجارة غير نمطية"؛ وأحيانا تسد الحشود البشرية منافذ الحدود، مسببة تدافعا يفضي الى حوادث خطرة. 
لا تفضل العديد من النساء الحديث عن وضعهن؛ رغم صعوبته. يقول "فونسيكا" (الذي حاول الحديث مع بعضهن): "أسعفني الحظ بمقابلة "فاطمة"؛ وهي حمالة تجاوزت السبعين من عمرها، قضت جل سنواتها تحمل أثقل رزم البضائع حتى تلاشت صحتها. وحينما طالبت بالتعويض من أرباب عملها السابقين (مبلغ مئة يورو فقط)؛ رفضوا بشدة". 
يبدأ يوم العمل عند الثالثة صباحا؛ وهو ما جرى عليه الحال مع فاطمة خلال السنوات العشرين الماضية. فهي تنهض منذ منتصف الليل، وتطهو ما يتيسر من طعام قليل لاسرتها، ثم تستقل أول حافلة متجهة الى مليلة (على الساحل الشمالي). ويتوجب عليها الوصول قبل الفجر إذا ما أرادت أن تسبق جموع العاملات؛ إذ أن أوائل القادمات سيحصلن على العمل، والمنافسة شديدة. 
في الأيام الجيدة قد تجني المرأة خمسة يورو لكل عبور حدودي، لكن أغلبهن لا يكسبن اكثر من عشرة يوروات يوميا؛ وهذا مكسب ضئيل لحمل رزم قد تقارب المئة كيلوغرام.
يتكرر هذا الروتين منذ الاثنين الى الخميس؛ حيث تصل الشاحنات المحملة بالبضائع الى نقاط الحدود، وتتبعها حشود من النساء والرجال الراكضين خلفها، وهم يتشاجرون ويصرخون. وما بين مضايقات الشرطة على جانبي الحدود الى المشاجرات المنتظمة (إذا كانت البضائع قليلة) بات للعنف حضورا دائما يواجه حياة النساء الحمالات. فبعدما تلقي الشاحنات البضائع تبدأ المعاناة؛ إذ تحملها النسوة (بأي طريقة كانت) صعودا على تل منحدر وعبر الحدود، وصولا الى نقطة التوصيل (حيث يتسلمن الاجور). 
 
نساء مهمشات
ينص القانون المغربي أن أية أمتعة يمكن حملها يدويا تعتبر "أمتعة شخصية"؛ لذا فهي معفاة من ضريبة الاستيراد. يتم التسامح مع هذا النوع من الممنوعات من قبل البلدين؛ بسبب التأثير الاقتصادي الذي تحدثه في المناطق المحيطة بالمعابر الحدودية. وترى التقديرات المتواضعة أن تلك التجارة تمثل نحو ثلث اقتصاد مليلة؛ بتحريك أكثر من مليون وأربعمئة ألف يورو من الواردات سنويا. 
أغلب النسوة من عاملات حمل البضائع غير متزوجات، أو مطلقات أو أرامل أو معنفات؛ وهن يخاطرن بحياتهن يوميا لأجل وضع الطعام على موائد أسرهن. كما تتكرر حوادث موت بعض النسوة نتيجة التدافع على فرص العمل، ورغم خطورة المعابر؛ لكن المخاطرة الكبرى تتمثل بالتأثير بعيد المدى لحمل بضائع ثقيلة.. إذ تعاني العديد منهن ظروفا صحية صعبة؛ غير إنهن يكدحن يوما بعد يوم.
وبسبب ارتفاع تكاليف العمليات الجراحية والعلاج الطبي؛ تضطر أغلبهن للاستمرار بالعمل لدفع متطلبات العلاج من تبعات العمل!. ويبلغ الفرق بين الاجور على جانبي المعبر الحدودي نحو عشرين ضعفا؛ ومع بلوغهم الخط الذي يعزل رفاهية أوروبا عن جوع أفريقيا؛ يصير الحمالون رمزا للاستغلال. 
يجتاز نحو ثلاثين ألف مغربي الحدود مع اسبانيا يوميا؛ على الأقدام أو سيرا. بينما يقدر عدد النساء اللواتي يعملن في حمل البضائع نحو عشرة آلاف؛ تتنوع حمولتهن بين البطانيات والاحذية ومستحضرات التجميل. تتغاضى المغرب عن نشاط التهريب هذا، الذي يبدو وكأنه يحدث على نطاق ضيق عندما يتجاهل المجتمع تأثيره التراكمي؛ نظرا لعدد الوظائف التي يوفرها القطاع الخاص. لكنه بالمقابل يكلف الاقتصاد المغربي عاليا؛ وكثيرا ما يشير النواب المستنكرون للأمر الى أن المغرب يخسر سنويا نحو مليار ونصف يورو نتيجة للتهريب؛ وبالمقابل، تجني اسبانيا أرباحا قدرها نحو سبعمئة مليون يورو من خلال تلك التجارة. 
وباتت القضايا المتكررة لمنتجات منتهية الصلاحية والبضائع التي لا تخضع للسيطرة والتي تعبر الحدود الى المغرب مسألة تهدد صحة المستهلكين في شمال المغرب؛ ومن هنا تعاظمت الحاجة لايجاد حلول وظيفية بديلة لعمل النسوة هناك.  
 
صراع على السيادة 
مدينتا سبتة ومليلة المغربيتان (الواقعتان تحت الحكم الاسباني) تستقران وسط قلب نزاع سيادي دبلوماسي طويل منذ زمن بعيد بين الدولتين؛ فخلال سنة 2007 سحبت المغرب سفيرها من مدريد احتجاجا على زيارة الملك الاسباني، آنذاك، خوان كارلوس الى سبتة. وتطور الجليد الدبلوماسي بين الدولتين، ليزداد تكاثفا كلما زار أحد المسؤولين الاسبان المنطقة. وكانت سبتة قد وقعت تحت الاحتلال الاسباني منذ القرن السادس عشر؛ وتطالب المغرب باستعادتها، مع مليلة، لأنهما جزء لا يتجزأ من أراضيها. كما أن أحداث التدافع عند نقاط الحدود (التي تكلف النسوة المغربيات حياتهن) اضافة الى تدفق المهاجرين غير الشرعيين والمتطرفين، الذين انضمت اعداد منهم الى صفوف تنظيم داعش، قد تحتم على اسبانيا والمغرب الاتفاق على حل دائم لوضع المدينتين. كما أن هذا يصب في الحديث عن السيادة؛ فبينما تواصل اسبانيا الضغط على بريطانيا لاستعادة سيادتها الوطنية على منطقة جبل طارق، فانها تنكر نفس ذلك الحق على المغرب. 
 
موقع "ذا نورث أفريكا بوست"،
موقع "يورونيوز"