إمضاءات (2)

ثقافة 2019/03/10
...

رعـد فاضل
 
* أوّلياً: لكلّ نظام أعراف تنشأ بتقادم الزمن والاستخدام في ظلّ هذا النظام. عمقيّاً: الثّباتُ غالباً ما لا يكون في النّظام نفسه بوصفه مجموعة أو منظومة رؤىً وأفكار وتقانات، وإنما في هذه الأعراف نفسها التي تحوّلت بهذا التقادم وبفعل التراكم إلى أصل، فيما يتحوّل النظام الذي تكوّنت هذه الأعراف منه إلى تابع أو ظلّ لها. وهذا في الغالب ما ينطبق على الشّعر العربيّ بخاصّةٍ رؤية وأسلوباً وتلقّياً ونقداً، وعلى الثقافة والحياة العربيّتين 
بعامّة. 
 
* عندما يكون المحمول الدلاليّ كُثاريّاً وعميقاً، سيكون فائضاً كثيراً عن حاجة كلّ قراءة تُعنى بالواحديّة والسّطوح، فينشأ لدى هذه القراءة نوع من التعثر والمشقّة نتيجة للنقص في أدوات تسلّمها للخطاب. ذلك هو أهمّ أسباب كلّ قطيعة معرفيّة وجماليةٍ ما بين كلّ نصّ من هذا النّوع وقارئه. العمق لا يعني الباطن كما تخدعنا دائماً كلمة (عمق) بما تتوفّر عليه من سمعة شهيرة مهيبةٍ، إذ إنّ في الحقيقة لكلّ عمق: بواطنَ، وما هذه البواطنُ إلّا طبقات تمتدّ عموديّاً. الباطن  هو ما يجب أن يخضع للعيادة والفحص والدّرس، وما القول بسَبْر عمقٍ ما كليّاً ونهائياً إلّا ضرب من طوباويّة نقدية. سبْر أيّ عمقٍ إذاً لا بدّ أن يعني مجموعة من الأسبار لبواطن ذلك العمق باطناً.. باطناً، وطبقةً.. طبقة. مع مثل هذه المحمولات يشتغل التأويل، ويتعطّل أو يتعثر التفسير.                                                                   
                                                                                      
* إنّ اكتشاف الشعر لوعيه بوصفه جمالاً رؤيوياً وفكرياً وفلسفيّاً هو من أودى به على ما يبدو إلى تاريخ ما زال فعّالاً من التّمزقات الدّاخلية التي نبّهه إليها هذا الوعي، فتحوّل من كونه خطاباً كان يمارس تطابقاً مريحاً مع العالم والإنسان والأشياء إلى ذات ممزَّقة بهذا الوعي ما عاد في امكانها أن تعيش خارج هذا التاريخ الذي صارت هي نفسُها ذاتَه، فصار الشعر نوعاً من القطائع لا يعيش إلّا داخل كلّ تمزّق بسببٍ من ما يواجهه الشّاعر- الإنسانُ، والإنسانُ بعامّة من تعقيد وتلبُّكٍ في عالم تسيّره الآلة ورأسُ المال، والسّياسات، والحروبُ، وشحّةُ الآدميّة 
والجمال.
 
* ليس هنالك فرق جوهريّ حقيقيّ بين الشعر في نمطه العموديّ والآخر التفعيليّ، ذلك أنّ الأول يقوم على عدد التفعيلات نفسه الذي تشتمل عليه أبياتُ القصيدة كلُّها، ثم على وحدة القافية. أمّا الثاني فيقوم على تعددية التّفعيلات 
والتـقفية. قصيدة التفعيلة من هذه الناحية كان خروجها من: الصوت الّلحني الأُحاديّ إلى: التّعددية 
الصّوتية.
من هنا إذاً ((إنّ من العبث الغاء القافية والرّوي أو تنويعهما في القصيدة الواحدة مع الاحتفاظ بهذا الشكل الهندسيّ السّيمتريّ شديد الانتظام والرتوب الذي لا يكفي سوى لتخفيف حدّة الجِرس أو ضِيق القيود الشكليّة)) كما عبّر النّويهيّ. 
أما خروج قصيدة النّثر، من هذه الناحية أيضاً، فكان جوهرياً نوعيّاً لا على الشّعر وإنّما على تلك الأحاديّة الصوتية والتعدديّة اللحنيّة إذ ((إننا لا نرى في اطلاق اسم الشّعر على بعض النصوص المكتوبة بغير الوزن بقطيعةٍ مع الشّعر العربيّ، بل مع البحور الخليليّة)) كما رأى جُبران.                                                        
                                            
  * يُذكر بما معناه: أنّ أبا تمّام غالباً ما كان يصوغ شعره وبين يديه ديوانا مسلم بن الوليد وأبي نواس. ماذا يعني ذلك؟. ربما يعني أنّه كان يتناصّ مع هذين الشاعرين الخلّاقين، وقد يكون ذلك واحداً من أهم العوامل التي كانت وراء عمقه الشعريّ، فضلاً على كونه كان يعيش تقاطعاً معرفياً وجمالياً فارقاً وخطيراً مع ثقافة عصره وأساليبه الشعريّة وقتذاك، ذلك التقاطع الذي وفّر له نوعاً رفيعاً من الاختلاف التعبيريّ والكُثاريّة الدلاليّة. 
التّناص لا يمكن أن يكون خلّاقاً إن لم يكن كيميائيّاً، أي نوعاً من الجدليّة العضويّة، نوعاً من نسيان شيء ما لا يظهر إلّا لَمْعاً وخطفاً كَمِثل برق عبر أسلوب تعبيريّ ورؤيويّ جديد آخر، وبمعنىً أوضح أن يكون نوعاً من حالة (اللاتذكّر) ليكون نسيجيّاً لا قشرياً، اِنتاجياً لا استلهامياً، ليكون نوعاً من التّنافذ والتّعالي في آنٍ، التّعالي  للمُتَناصّ/ لا للمُتَناصّ معه، وما هذا التعالي إلّا ((الأُستاذيّة)) نفسُها كما سمّاها الجرجانيّ. التّناص ليس انتحالاً أو تثعلُباً تجاه نصّ ما أو نصوص بعينها، إنما هو أشبه ما يكون بــ( تَضْييف) للآخر في نصّ ما شرطَ أن لا يخرج هذا (المضَيَّفُ) كما دخل، فيكون شكلاً من أشكال الانتحال الخفيّ. 
وإذا ما عمدنا إلى تفكيك مثل هذا النص (المضَيِّف) بنيّةِ التثبّت من هذه اللحمة النسيجيّة يجب ألّا يكون النصّ قابلاً للفكّ كما قشرةٍ عن سطح، أو كمضَيَّف عن مُضيِّفه، بل كوحدة لا يمكن تمزيعها أو تمييز حتّى نوع الضّيافة فيها. 
ذلك هو شرط كلّ تناصّ ابتداعيّ، وكلّ جدليّة ما بين العالم بوصفه (خارجاً) نصوصيّاً، وبين نصّ ما بوصفه (داخلاً) لأنّ التناص ((عنصر مُذيبٌ ومشيمة جنينيّة بلا نظير)) كما رآه بلانشو. وفي هذا السياق نفسه يُذكر أنّ المتنبّي وقت قُتل وجِد في سرج جواده ديوانا أبي مّام والبحتريّ.                               
 خرج أبو تمام بالشّعر من كونه مؤالفة واستلهاماً ومواءمة، إلى الابتداع والايغال في التخييل والعناية الفائقة بما وراء المعنى والقصد، لا بل جعل التغريب شرطاً للتجديد ((اغترِبْ تتجدّدِ)) فكان شعره أُولى عتبات الشعر العربيّ إلى الرمزيّة الخالصة، وأيضاً إلى ما عُرف فيما بعدُ بـالشّعر الصّافي، بل كان طريقةَ تفكير وتعبيرٍ جديدة قائمةً برأسها كما كتب هو:                       
                       هُذِّبَ في جنسهِ ونالَ المدى                                           
                       بنفسهِ، فهوَ وحدهُ جِنْسُ.