قوة المؤسسات لا مؤسسات القوة

آراء 2022/01/10
...

 ابراهيم العبادي
 
تكشف الأحداث المتسارعة في عالمنا أن مشكلة الحكم والإدارة تزداد صعوبة رغم الخبرات البشرية الهائلة، التي تراكمت على مدى مئات بل آلاف السنين، ورغم التجارب والنظريات المتعددة التي تراوحت بين نظرية الحق الإلهي ونظرية السلطات المقيدة ونظريات الحكم الشمولي المطلق وأخيرا الديمقراطيات
 الليبرالية.
إذا ألقينا نظرة على الجدل الداخلي الأميركي، فإنَّ أميركا ذات الديمقراطية التي سوّقت نفسها (أنموذجا) وقيمة سياسية عليا في المعترك الكوني، عانت من جرح نرجسي خطير، جعلت الرئيس والادارة والمؤسسات السياسية تعيد فتح ملف اقتحام الغوغاء الاميركيين لرمز الديمقراطية وسيادة المة (مبنى الكونغرس) بكل ما نجم عن ذلك من تهديد جدي كاد يعصف بالنظام السياسي ويمهد لانقسام خطير داخل النخبة والمجتمع السياسي، بل المجتمع العام، بلغ حد التهديد بالحرب
 الأهلية. ما الذي قاد إلى هذا الحدث الذي مثل جرس انذار خطير؟ لا شكَّ أن الأسباب عديدة، لكن الأخطر والأهم كان تغلب منطق الشعبوية والتطرف اليميني على قيم المؤسسة، التي حكمت التاريخ الأميركي منذ انتهاء الحرب الاهلية لغاية يوم 6 كانون الثاني 2021، الدرس الأكبر كان في ضرورة الحذر من متغيرات الوعي السياسي والاجتماعي، والاستماتة في فرض منطق القوة على منطق العقلانية والانصياع لرأي الاغلبية، التي هي جوهر العملية الديمقراطية، تغلبت أميركا على أزمتها، وهي أزمة التقيد بروح الديمقراطية بقوة المؤسسة السياسية وقيم الحكم والادارة الناظمة لسلوك الطبقة السياسية وأعضاء المؤسسات الأمنية والقضائية والإعلام والأحزاب.
مقارنة بما جرى في أميركا، يمكن الاشارة الى النماذج السياسية الاخرى الاضعف كثيرا مقارنة بالمؤسسة الاميركية (المقارنة هنا شكلية اساسا) ماحصل في دول الربيع العربي، تونس، مصر، اليمن، البحرين، ليبيا، سوريا، لاحقا الجزائر ثم السودان، وقبلها العراق، وبين هذه الدول العربية وما حصل في جورجيا واوكرانيا وأرمينيا، وما يحصل الآن في كازاخستان، المقارنة تنصب اساسا على قوة المؤسسات من عدمها، الجامع المشترك بين هذه النماذج، هو الافتقاد الى مؤسسات للحكم تمثل الشعب والامة تمثيلا صادقا بما يسمح بتماهي المواطن مع الدولة وانتمائه الشعوري والوجداني اليها، رغم الاختلاف والتعارض حد الثورة على أنظمة
 الحكم. في كل النماذج المشار اليها نجحت الدول التي امتلكت فيها المؤسسة العسكرية والأمنية ولاءها للدولة وللأمة، وحيدت نفسها عن صراعات الأحزاب والسياسيين والتيارات المؤدلجة المتصارعة، حفظ أمن الدولة والسيادة والنظام العام وجريان الحياة العامة بحدها الأدنى هو ما يسمح بالتغلب على أزمات السياسة والاقتصاد والكوارث الطبيعية وغيرها من التحديات، السياسيون الأذكياء هم السياسيون الذين يسعون الى تقوية مؤسسات الدولة وتحييدها عن تغول الشخصيات والاحزاب والتيارات الايديولوجية، لا العكس، ما زلنا نعاني من منطق مقلوب وهو استخدام مؤسسات الدولة حزبياً او قومياً او طائفياً للاستقواء على الآخر المنافس، بما قاد ويقود الى انهيار المؤسسة في أول تحدٍ ومع أول ازمة 
عاصفة!.
يندهش المرء حينما يجد دولاً غنية مستقرة لفترات طويلة تنهار في ليلتين، ما أن ينفلت غضب الناس على السلطات القائمة. بما يجعلها تستنجد بقوات دول أخرى لتحفظ لها أمنها الداخلي وتنتصر لها في حرب داخلية أو أهلية صغيرة. أين عمل مؤسسات الضبط والأمن والنظام؟ ولماذا تفشل جيوش مدججة وامن سري مبالغ في هيبته وسطوته؟ وكيف يصل الاقتصاد الى حد الشلل التام في أول اضطراب مفاجئ؟ الجواب الأولي يكمن في إضعاف المؤسسة والمؤسسات الضامنة والناظمة لوحدة الأمة وجريان الحياة في شرايينها، قوة المؤسسة لا تعني الاعتماد على القوة الاكراهية والتعسفية وحدها، رغم أن سيادة الدولة بالمفهوم الفيبري منوطة باحتكار العنف الشرعي، بل تعني أن قيم الناس السياسية ومعاييرهم واتجاهاتهم ترفض المساس بالدولة ومؤسساتها الأساسية، التي ينبغي أن تكون قوية وحيادية في الآن نفسه، ولا تتحول الى ذراع باطشة بيد السلطة أو مع تيار ضد آخر من تيارات الامة، قوة مؤسسات الدولة تعني أن تكون حاضرة في نفوس الناس، حائزة على ثقتهم، قادرة على حمايتهم والدفاع عن سيادتهم، وضامنة لحاجاتهم، أو كما يقول فوكوياما أن تكون قادرة على تصميم السياسات وسن الانظمة والقوانين ووضعها موضع تنفيذ. عراقيا من يلاحظ العداوات الشخصية والتنافسات الحزبية وروح الوصاية على الأمة وادعاء تمثيلها لدى هذا الفريق او ذاك، واندفاع قوى لفرض كلمتها على الفضاء السياسي، يكشف أننا لم نتعلم من مخاطر إدعاء (الرؤية) الصائبة، ولم نجعل مصالح البلاد- ذات التنوع والتعدد - ملاكا لمواقفنا وايديولوجياتنا الحزبية، بل إن الجميع منغمس في لعبة السلطة دونما حساسية ودراية بمخاطر القطيعة السياسية والمجتمعية مع أجيال الحاضر الناقمة والمستهزئة.