ثقافة الاختلاف شرط الديمقراطيَّة

آراء 2022/01/15
...

 غازي فيصل
 
أحسب أن إشاعة وتكريس الديمقراطية عند الشعوب هو أصعب من توظيف أو زج أيديولوجية معينة، كمرشد للحكم او فرضها كاطار للفعاليات الاجتماعية والسياسية، والسبب بسيط كما أرى ذلك أن الأيديولوجيات قد تقحم أحياناً على الشعوب، ولكن الديمقراطية تنغرز وتتأقلم في بنى العلاقات الاجتماعية والسياسية عن طريق الممارسة اليومية بكل أشكالها وتفاصيلها وعلى شكل تدرجي، فهي بالتالي ميلاد متنامٍ لمناخات ومفاهيم جديدة او بالأحرى تطور وعي إنساني جديد ينحصر تحديدا في إدراك مفاهيم الاعتراف بالآخر.
تطبيق الديمقراطية في العراق واجه اشكاليات عميقة، تتمثل في القطيعة الطويلة والغياب التام لاية ممارسة ديمقراطية وعلى مدى اكثر من عدة عقود من الزمن، والموروث السلبي الضخم الذي خلّفه النظام الديكتاتوري السابق، من ممارسة تسلطية وتعسفية عملت على تشويه بنية المجتمع والفرد على حدٍ سواء؛ والتجربة الديمقراطية في العراق رافقتها أخطاء وشوائب كثيرة، أضرّت في مسارها، وكل هذا هو افراز طبيعي للمخطط غير الرشيد لبناء الدولة والعملية السياسية بعد 2003، اتضح ذلك بمؤثرات داخلية واقليمية.
داخلياً كان التشكل الطائفي والمحاصصي للعملية السياسية غير موفق تماماً الى درجة السلبية في النتائج اللاحقة من فساد إداري ومالي، وإفراز معطيات معرقلة للديمقراطية، متمثلاً في إقصاء المواطنة كمعيار مركزي في بناء دولة حديثة.
تاريخياً ومن باب المقارنة وعند معاينة تجربة الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي، رغم اختلافها العميق مع المعطى الراهن، نجد أن تشكيلة الدولة العراقية في العشرينات من القرن الماضي تنطوي على قدرٍ من التعين الخاص التاريخي الملائم لبناء الدولة الحديثة وبمواصفات مناسبة آنذاك، على الأقل إنها تمكنت من بناء الكيان العراقي الحديث، بعيداً عن الولايات العثمانية، وافلحت في أن تحصل على الاعتراف العالمي وتكللت جهودها بعد ذلك بنيل العضوية في عصمة الأمم، فالمؤسسات النيابية والدستورية وإن بشكلها الصوري، وشيوع التأسيس التعددي هي من ميزات الدولة تلك، أما العامل الذي ساعد في هذا التشكل المتنوع والنيابي، فيعود الى طبقة القوى والاحزاب التي كونتها التركيبة السياسية، فكان في مقدمة أهدافها هو تحقيق الاستقلال، من خلال الاعتراف بتعدد القوى السياسية المنبثقة آنذاك وافساح المجال امام اكبر عدد من الشخصيات والتجمعات السياسية في تقديم ما نملك من قدرات لبناء الدولة العراقية انذاك، فما يهمنا هنا هو الادراك المبكر والاستعداد في الاعتراف بالآخر بتقدير واحترام واقع الاختلاف.
والحقيقة إن بروز مفهوم (الاختلاف) وإن كان حديث العهد على الواقع السياسي في العراق والثقافة الشعبية العامة، إلا أنه اصبح واقعاً حتما، متوافقا مع متغيرات معرفية وتنظيرية، خصت نظريات كبرى على المسرح العالمي بعمومه، وحصلت زحزحة لـ(ايديولوجيات) مؤثرة على المستوى الكوني، كان لها تأثيرها الجذري في الواقع السياسات وأنظمة كل دول العالم، في الراهنة نشهد معتركا وتداخلا فكريا وشديد الضراوة، يتميز بانحسار الانسداد نحو الانغلاق الايديولوجي، وهذا بدوره وفّر مناخاً لا يشجع على الأنظمة المركزية والشمولية والكلية وأنتج فرصة واسعة للاختلاف والاعتراف بالآخر.
إن البنية السياسية في العراق بأمس الحاجة إلى التلاقح مع هذه الرؤية الكونية وبمنظور محلي يستدعي ملاحظة المتغيرات والأخطار الجمة الى تحيط بنا، وهذه تعد ضرورة ملحة باعتبار أن المواجهة هي أمام تحديات ضخمة، بالدرجة الأولى هي إعادة الثقة في قدرة العراقيين على إعادة ترتيب 
الداخل العراقي وبمعطيات معاصرة، والمهمة الثانية هي سحب الاعتراف من الآخر، واثبات قدراتنا على بناء الحياة الجيدة والتعايش الايجابي.