انتظار

آراء 2022/01/23
...

 يحيى حسين زامل 
ليس كل الرصاصات والمدافع قاتلة وقاسية، فهي مثل البشر تماما فيهم القاتل وفيهم غير القاتل، لذلك قد تمر من جانبك رصاصة ولا تؤذيك أو قد تسقط بجانبك قنبلة ولا تنفجر، ولكن في قضيتي كان البشر والمدفع والقنبلة كلهم قتلة وقساة وعديمي الرحمة، فقد كنت بجانب ساتر جبهة الحرب، بعد أن قادوني إليها مرغما، أكتب في دفتر صغير نص قصيدة غير مكتمل، وأحاول العثور على بعض الكلمات الشاردة
إذ علت أصوات رشقات من القصف الجنوني التي قصفت الساتر بوابل من القنابل، وما أن أدخلت دفتري الصغير في جيبي، حتى وجدت نفسي أصعد في السماء وأشاهد ساحة الحرب كلها، وطلقات المدافع تشق جيوبا في السماء وتتساقط على الجهة المقابلة، تحول الصعود إلى نزول، بعد أن هويت إلى الأرض في حفرة كبيرة بسبب هذه القنبلة اللعينة، ثم تتساقط فوقي كمية كبيرة من التراب والغبار وبعض الحجارة، ليصبح تلا صغيرا أشبه بقبر دفن فيه حدهم في التو 
واللحظة. 
ساد صمتٌ طويلٌ، وتلاشت اصوات المدافع والحرب واصدقائي الذي لم يعثروا على اي شيء مني، وساد صمت عميق، عميقا جدا لم أفهمه، فقلت ربما انتهى القصف، وربما في وقت لاحق سيخرجني اصدقائي من هذه الحفرة اللعينة، كانت آخر استنشاقات لرئتي قبل لحظات وقد بدت رئتاي جامدة ومتحجرة تحاول التقاط آخر نفس في تلك الحفرة، مضى بعض الوقت وتحول كل شيء الى ظلام، ظلام دامس لم أتوقعه، كنت اتوقع ن يزال التراب عني وأخرج إلى سطح الأرض، مضى بعض الوقت بصمت، صمت رهيب لم اعهده من قبل، ربما انا مت، لا لا لم أمت، أريد أن أعود للحياة، ليس لدي القدرة على مواجهة العالم الآخر بكل مأساته وقلقه وخوفه، صرت ابحث في عقلي وفكري عن منقذ، ابحث عما تعلمته من سبل لإنقاذ الحياة، الذي طالما اتبعته في مشوار حياتي، فقد كنت أمشي بجانب الحائط، ولا أعترض على أي شيء، حتى القصائد التي أكتبها ضد السلطة أمزقها في ذات اللحظة، لا أخرج من البيت إلا نادرا، ربما أحتاج بعض لوازم الحياة فأخرج مضطرا، يا إلهي ماذا أفعل، أعصر دماغي المتصلب بفعل ضغط الأرض لأجد الحل، في ذات اللحظة صرخت بكل قوتي على اصدقائي، ثم أصمت قليلا لأرى ردة الفعل، أو الإجابة، أو حتى حركة بسيطة.
مضى شهرٌ وأنا على هذه الحالة، تحت الأرض، ولا زال الأمل لدي بأن أخرج من هذه الحفرة اللعينة، فجأة سمعت حركة بسيطة، وملمس ناعم يمس جسدي، وبعض الخربشات بظافر صغيرة، لم أفهم ما يجري، كان التراب يتساقط من أحدى جوان جسدي الملتوي تحت الأرض، وصلت الخربشات إلى رقبتي ثم إلى وجهي، وأمام عيني وقف جرذ مندهش من عيني المفتوحتين تحت الأرض، وقف الجرذ يتأمل قليلا هذا الوضع، ثم ذهب بعيدا، وعاد يلامس بدلتي العسكرية، كان جيب بدلتي بدا واضحا في ذلك النفق الذي أحدثه الجرذ، وقد بدا منتفخا بسبب الدفتر الذي كنت أكتب فيه، أثار هذا الانتفاخ في جيبي غريزة وفضول الجرذ، ومد يده إلى داخل جيبي وأخرجه، وأخذ يقلب صفحاته الصغيرة، نظر إلى بعض صفحاته وقد مُلِئت كلمات ورسوم مختلفة وبعض الكلمات تم إخفاؤها من خلال دمغها بكثير من الحبر، رماه جانبا وأخذ يتأمل وجهي المتجمد تحت الأرض، لم تكن لي القدرة على أي حركة، وكنت تحت رحمة جرذ لا عرف ما يريد وما ينوي أن يفعل، وما يفهم، وكيف جاء إلى هذا المكان في ساحة الحرب، أنا بدوري لم أعد أسمع أي شيء عن الحرب وأزيز الرصاص وطلقات المدافع، وأصوات الجنود، صمت مريب، ترى هل رحلوا جميعا؟.. هل ماتوا جميعا؟.. لا أفهم ما يجري، عاد الجرذ بعد قليل وهو يحمل بين فكيه قطعة من جريدة ممزقة، يبدو أن هذا الجرذ يحب الأوراق ويفضل أكلها، ربما يعدها وجبة لذيذة من يدري، طالما كنا نأكل على أوراق الجرائد في أيام مكوثنا هنا في جبهة القتال، لمحت في تايتل الجريدة عنوانا كبيرا بلون أحمر كلمة واحدة، هي انتهت، وبعدها ألف ولام، ما التي انتهت لا أدري، فكرت في كل الاحتمالات للنهايات المتوقعة، ولكن لم أتوصل الى معنى واضح عن هذا الانتهاء، لو كنت استطيع تحريك يدي، لو كنت أقوى على تحريك يدي، ذهب الجرذ مرة من النفق الذي أحدثه بجانب جسدي، وعاد بقطعة صمون يابسة، وأخذ يأكل فيها وهو يحدث صوتا عاليا ولكنه أحلى صوت أسمعه في وحدتي هذه، كنت أنتظر أن تتحرك الجريدة قليلا، لا أعرف ما الذي انتهى، وبعد أن أكمل الجرذ التهام تلك القطعة اليابسة راح نحو الجريدة، وأخذ يقرض فيها ايضا، ولكن لسوء الحظ بدأ بالكلمة التي لا أراها، حتى وصل إلى كلمة انتهت وتركها ومضى، وإلى اليوم لا أعرف ما هي التي انتهت، وانا في الوضع نفسه.. انتظر.