ما لا نفع فيه

العراق 2022/02/23
...

أحمد عبد الحسين
في كتابه "المدوّنة الكبرى" يكتب نورثروب فراي أنّ غاليلو لم يأتِ بأمر جديد على عصره. صحيح أنه حوكم لقوله إن الأرض تدور حول الشمس، لكنْ كان جميع معاصريه ـ بمن فيهم القضاة ـ يعرفون هذه الحقيقة ولم تكن تحتاج إلى عالمٍ فلكيّ. البقالون وبائعو السمك والعجائز في مدينة بيزا يعلمون أنّ الأرض كوكب يدور حول الشمس، غير أن الكنيسة ـ وهي تعرف أن الناس يعرفون ـ لم تكن تسمح لأحدٍ بإعلان ذلك.
ليستْ مشكلة الكنيسة مع المعلومة نفسها، كانت مع إعلانها على الملأ. ولم تكنْ ضدّ أن يؤمن الناس بالحقيقة العلمية بقدر ما كانت ضدّ نشر هذه الحقيقة.
عداء السلطات كلّها، والدينية بالأخصّ، ليس مع الأفكار التي تُتداوَل سرّاً، عداؤها مع إشهار هذه الأفكار. وهذا هو خطر الإعلام الحقيقيّ: أنْ يقول ما لا يستطيع أحد آخر قوله.
ثمة نغمة شعبويّة مهلهلة تشيع منذ الأزل في أوساط الناس، وتشيع اليوم أكثر في فيسبوك، مفادها أن المثقفين بيّاعو كلام، هواة تنظير، مدمنو حكي، ولا نفع في ذلك كله. نغمة تستهوي البسطاء وتطربهم وتزدري الفعل الذي من أجله وجدتْ الثقافة ـ ومنها الإعلام طبعاً ـ وهو أن يكون هناك أحد ما يجرؤ على الكلام.
نحن نقول بأسى: "لا فائدة من كلام المثقفين ولا نفع"؛ وفي خاطرنا النفع الآنيّ والفائدة الفوريّة، في حين أنّنا الذين لا جرأة لدينا لا نحتاج إلى معلومة مبتكرة ولا إلى فتحٍ في الفلسفة. نحتاج إلى شخص جريء يعلن ما نعرفه سلفاً.
وبالمناسبة، فإن كلمة غاليلو ومحاكمته كانت تتعلّق بالشمس والأرض والقمر وحساب الأفلاك ولم "تنفع" الناس، لم تزد كمية الخبز على موائدهم ولم تلبسهم ثياباً جديدة ولم تعطهم نقوداً. كل ما فعلته أنها غيّرتْ وجه العالم كلّه.. فقط.
يا إخوتي.. الأبواب موصدة بإحكام. الجرأةُ هي المفتاح. وما لا نفع فيه هو الكنز!