البحث عن حنجرة طرية للمثقف العراقي

ريبورتاج 2022/03/01
...

  صفاء ذياب
مع كل لقاء تلفزيوني أو إذاعي لمثقف أو أديب أو فنان عراقي، يبدأ التندر من قبل المتابعين على تلقائيته أو طرائق ردوده، حتى كأننا نمتلك حنجرة صعبة الانقياد، على الرغم من الثقافة الواسعة التي يمتلكها المتحدثون، غير أن هذه الثقافة لا تمنح مرونة في التعبير أو الإفصاح.
 يذكر أحد أهم الباحثين في علم نفس الأدباء، الأستاذ الدكتور ريكان إبراهيم، أنه ذات يوم دخل عيادته عامل مصري يشتغل في العراق، وبعد سؤاله عن مشكلته، كان كأنه يتحدّث مع نفسه، فسرد المشكلات النفسية التي يعاني منها، والأزمات التي يمرُّ بها، حينها قال له إبراهيم إنّه لا يحتاج لطبيب نفسي ما دام يستطيع التعبير عمّا يختلج في نفسه بهذا الشكل، ويستمر إبراهيم في كلامه، كاشفاً أنه بعد أيام قليلة زاره أحد أساتذة النحو الأكاديميين، وبعد أكثر من ساعة لم يستطع فهم ما المشكلة التي يعاني منها.
هذا التعبير كان أزمتنا التي نعاني منها منذ عقود طويلة، فمن الصعب علينا الإفصاح عمّا يدور بخلدنا، أو التعبير عمّا نريد قوله بمرونة، فما زال العراقي، مواطناً ومثقفاً، يشعر أن هناك ما يلجم حنجرته للتعبير عن نفسه، فكيف نفهم هذا الثقل والصعوبة في القدرة على
التعبير؟.
 
تنفس الحرية
يرى الدكتور طه جزاع أنَّ الحرية تمرين وتدريب على الرأي السليم، والقول السليم، بلا خوف ولا خشية من فرد أو مجموعة أو قوة أو سلطة، ولا تحرج إلا من حرج الخروج عن الأعراف والقوانين، حين تكون تلك الأعراف نافذة، وحين تكون تلك القوانين فاعلة مفعلة لها سلطة الحق العام على جميع الناس بالقسطاس.
ولأن العراقي- ومنه المواطن والمثقف على السواء- لم تتح له فرصة حقيقية للتنعّم بالحرية طوال العهود التي مرّت على الدولة العراقية الحديثة، ناهيك عن الماضي البعيد، فإنّه بقي تحت طائلة الخوف على حياته الشخصية ومصير أسرته من كلّ النواحي، فهو لم يتدرّب في «الهايد بارك» مثل المواطن الإنكليزي، ولم يتنفّس أجواء الحرية الحقيقية التي يحميها المجتمع، ويصونها القانون، ويحترمها الدستور، وتدافع عنها السلطة، ولم يجرّب أن يقول رأيه بحرية تامة، أو يرفع صوته عالياً بالغضب والاستنكار، فكلّما جرّب ذلك دفع ثمناً باهظاً يلجمه عن التفكير في إعادة المحاولة!.
ويضيف جزاع: ‎سيبقى العراقي هكذا طويلاً، حتى يطمئن تماماً من أنَّه يقول رأيه بصوتٍ عالٍ، ثم يعود إلى أسرته آمناً مطمئناً، بحكم قوة القانون وتكاتف المجتمع، محمياً من السلطة والشرطة، بدلاً من أن يختفي وتنقطع أخباره، ربما إلى
الأبد!.
 
خلل التعليم
ويحدد الدكتور علي عبد الرسول الجعاري الأسباب التي ذهب بعض الباحثين إليها، من أنَّ هناك أسباباً متعددة لهذه الظاهرة في عملية التواصل اللساني، فيرى أنَّ السبب الأساس في انتشار تلك الظاهرة في الوسط العراقي هو النظام التعليمي والتربوي من خلال الاهتمام بتدريس الكفاية اللغوية على حساب الكفاية التواصلية، فاللسانيون يعرّفون الكفاية اللغوية بـ «معرفة المحادث (المتكلّم السامع) للغته» والمتمثلة بقواعدها في كلّ مستوياتها. 
وأصل هذا المصطلح عند تشومسكي إذ وضعه مقابلاً لمصطلح آخر وهو الأداء الذي يعني (الاستخدام الفعلي للغة في مواقف ملموسة) وقد أهملته المدرسة التوليدية التحويلية غير أنَّ ذلك أدى إلى بزوغ بعض المدارس اللسانية التي اهتمت بهذا الجانب المهم وهو جانب الأداء من خلال مصطلح جديد أطلقوا عليه (الكفاية التواصلية) التي عمقت الاهتمام بعملية التواصل وكيفية استثمار الكفاية اللغوية استثماراً أمثل من خلال السياقات التواصلية المختلفة، وألا يكون التعليم منصباً على الكفاية اللغوية فحسب، بل يشمل الكفاية التواصلية، إذ يتحقق التواصل بين المتكلمين ولا يحدث أي فشل تواصلي إذا ما جرى تساوي الاهتمام بين الكفايتين، وهذا ما كان وما زال مهملاً في نظامنا
التعليمي.
 
مهارات التعبير
ويبيّن الدكتور كريم ناجي أنه لا بدَّ من الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين التفكير والتعبير، وتأثر كلّ منهما بالآخر، فالفكر يتأثر بما يصيب التعبير من تعثر وتلكؤ على نحوٍ لا يختلف كثيراً عن تأثر التعبير بما يصيب الفكر من تشوّش وضعف، على فرض أنَّ العلاقة الأخيرة، أي تبعية التعبير للفكر واضحة لا خلاف عليها.
مضيفاً أنّ مهارة التعبير ممارسة إنسانية حيوية مثل القدرة على التفكير، وهما لا يختلفان كثيراً عن ممارسات الإنسان الأخرى كالرياضة والرسم وغيرهما من الممارسات التي تصقلها الدربة والمواظبة، ويُضعفها الترك أو الإهمال، ومن هنا تتكشف لنا خطورة القيود المختلفة على حرية التعبير، وانعكاساتها السلبيّة على جوانب مهمة من حياتنا، في مقدمتها النجاح في إحداث إصلاحات جوهرية في المجتمع والدولة، فالأمم لا ترتقي بالمجاملات وغض الطرف، بل تبنى وترتقي بالوعي والفكر الإيجابي والنقد البنّاء، والتعبير عن ذلك بحرية وصدق، وكذلك النجاح في إعداد قادة المستقبل في البيت والمدرسة والجامعة، ويمكن أن نلحظ الفرق في المهارات التعبيرية والطلاقة الفكرية بين شباب المجتمعات المتقدمة وشباب المجتمعات التي تكثر فيها القيود والمحظورات.
 
ظلام الماضي
ويشير الشاعر والصحفي رعد كريم عزيز إلى أنّه ‏على الرغم من الانفتاح الواسع في وسائل الاتصال الحديثة، إلَّا أن الانتقال من ظلام الماضي القريب والمخاوف من الأقبية، وتصاعد طبول الحرب مع الجيران، والاختناق الحزبي الضيّق، إلى ضوء الحاضر، لم يكن كافياً للإفصاح، لأن كلّ ذلك ما زال جاثماً ومتراكماً في الذاكرة، ما شكل متاريس من الهلع، فضلاً عن تشكّل موانع جديدة تحت مسميات حزبية أو مكانية أو طائفية، ضيّقت من مساحة القول والإفصاح، وما زالت إشارات الأدب والثقافة، الشفاهية المبطنة، تتصدّر مشهد التعبير الجواني للواقع وما يمور في صراعه المرير، وهو يصنع صورة لم يعتدها العراقي في حياته المعاشة
الجديدة.
‏المثقف والمواطن محكومان بطبيعة توجه وسائل الاتصال المرئية والمكتوبة والتوجهات التي تسيطر على المشرفين والمنتجين لتلك الوسائل، ‏وتبقى حرية القول نوعاً من المواجهة التي تحتاج إلى شجاعة كافية ورؤية مسؤولة وهي نادرة نوعاً ما ولو أن تمثلاتها تظهر بين فترة وأخرى على لسان شجعانها المميزين.
 
التعوّد على الدكتاتورية
وبحسب الدكتور ياسر البراك، فإنه على الرغم من سقوط الدكتاتورية عام 2003 وتغيّر الوضع السياسي في العراق من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي وتوفر مساحة من حرية التعبير النسبية في وسائل الإعلام، وكذا الحال في الخطابات الثقافية والفنية، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور دكتاتوريات جديدة تتمثل بالرمز السياسي (الزعيم أو القائد)، أو الديني (السيد أو الشيخ أو الحجي)، أو الاجتماعي (شيخ العشيرة)، ما يعني تناسل الدكتاتورية الواحدة التي كان يحتكرها شخص واحد وحزب واحد إلى أشخاص متعددين وأحزاب متعددة وهي- في تصوّره الشخصي– أكثر تعقيداً من دكتاتورية ما قبل 2003 لأنَّها دكتاتوريات تتستّر بالدين أو المذهب أو القومية، فضلاً عن حمايتها بأجنحة مسلحة هي مزيج من الميليشيا والحضور النافذ في المؤسسات الأمنية. 
لذلك يكون أمر نقدها أو تأشير سلوكها غير الإيجابي في الحياة العامة محفوفاً بالمخاطر لأنَّها تمتلك القدرة حتى على استخدام القضاء استخداماً تعسفياً عبر تهديده أو ابتزازه أو الضغط عليه لصالحها، لذلك يجد المثقف نفسه مهدداً على الدوام من أطرافٍ عدة وبوسائل مرعبة تصل إلى حد التصفيات الجسدية، كما حصل مع الكثيرين من المثقفين
والفنانين.