كلوا واشربوا

العراق 2022/03/24
...

أحمد عبد الحسين
 

تعرفون ماذا قالت سيدوري صاحبة الحانة لجدّنا كلكامش وهو في طريقه للبحث عن الخلود؟ قالت له: لا تحاولْ. أنت ميتٌ ولذا املأ بطنك بالأكل والشرب وتزوجْ فهذا نصيب البشر. ولا شيء أكثر واقعيةً من حكمة سيدوري. لكني أمس وأنا أقرأ مقالاً لتيري إيغلتون نبّهني إلى الشرور الكثيرة التي يمكن أن تطلّ برأسها من عبارة "كلْ واشربْ"، وجدتُ أنها عبارة عدميّة للغاية ومنتجة للفساد. كيف؟
التيقّنُ من أن الموت آتٍ لا محالة وأني أُعطيتُ في هذه الدنيا وقتاً محدوداً يستوجبُ عليّ أن أقضيه كما أحبّ بأقلّ قدر من الألم وأكبر ما يمكن من اللذة، يورث انعدام شفقة وانعدام اهتمام بما يحدث للآخرين، وهي سمات الطغاة والفاسدين. لسانُ حالهم: الآخرون لن يحلّوا محلّي في الحياة ولا في الممات، فليس من الحصافة أن أتألم من أجلهم أو أهتمّ بهم.
الفاسدون عدميون، يقول إيغلتون، وشعارهم "كلوا واشربوا" لأن الدنيا فانية يا حبيبي يا كلكامش.
تذكرتُ أن هذه الصيغة وردت كثيراً في القرآن الكريم، لكني انتبهتُ إلى أنها لم تردْ إلا وهي متبوعة بصيغة "لا" الناهية "كلوا واشربوا ولا تسرفوا" أو "كلوا واشربوا ولا تعثوا في الأرض مفسدين"، أو "كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا .." وهي إشارات مذهلة في عمقها إلى أنّ صيغة الأمر "كلوا واشربوا" لوحدها يمكن أن تصبح باباً لفساد كبير من دون نهيٍ حازم 
يتبعها.
هناك نمط حياة كامل "وهو نمط حياة الطغاة والفاسدين" قائم على قاعدة "كلوا واشربوا" من دون أن يتبعه نهيٌ "ليس نهياً دينياً بالضرورة بل نهي النظم السابقة حتى للأخلاق والتي تحدث عنها توكفيل وسماها الحقوق القَبْلِيّة". هؤلاء السياسيون عدميّون وإن لم يعرفوا، وكفرة وإنْ حجّوا كلّ سنة، وهم أدنى رتبة من الإنسان؛ في الحقيقة يسميهم القرآن حيوانات "يأكلون كما تأكل الأنعام" وإنْ لبسوا بدلات وربطات 
عنق.
كلُّ فاسدٍ "وما أكثر الفاسدين عندنا" ينطوي على حكمة سيدوري التي تبدو في ظاهرها واقعية متماسكة حدّ البديهية على هيئة فعل أمر "كُلْ واشربْ" لكنه إنْ لم يكن متبوعاً بنهيٍ فسوف يأكل الأخضر واليابس ويخرّب الأوطان ويسرق الخزينة باسم الإيمان ويفسد الحكومة والبرلمان. فبأي آلاء ربكما تكذبان!