أحمد عبد الحسين
أول أمس صعد شاعر شابّ إلى منصة القراءة وفي يده قنينة خمرٍ، جوبه بردود فعل غاضبة، حوكم أخلاقياً على صفحات التواصل، وقلةُ قليلة عرفوا أنه إنما يستكمل تقليداً قائماً على الفُرجةِ دأبَ عليه شعراء "سمّوا بالصعاليك" أنتجوا مشاهد صادمة كهذه أكثر مما أنتجوا شعراً يستحقّ اسمه. بوكوفيسكي هناك وجان دمو هنا وبينهما كثير من صانعي الفرجة والصدمات. ولا أريد أن أحشر الشعر في مرافعة أخلاقية، فليس هذا مطلبي.
اعتقادي أنّ هذا التقليد يهون أمام تقليد آخر باشره شاعرنا الشابّ، يتعلّق بنصه الذي قرأ. كانت قصيدته فضيحة أكبر وأكثر إضحاكاً من مشهد القنينة في يده. أهان اللغة ونكّل بها، وفي حسبانه أن الانفلات المشهديّ الذي صنعه؛ يمكن للغة أنْ تستوعب انفلاتاً مشابهاً له. وإذا سالتْني لماذا، فإليك الخبر العاجل: لم تعد اللغةُ أمراً مهمّاً للشاعر!
منذ التسعينات أشيعتْ في الوسط الشعري العراقيّ فكرة أنّ اللغة مجرد أداة إيصال، فكانت قصائد كثير منهم تُباشَر اللغة في حدّها الأدنى، وصار الشعر تبعاً لذلك جوهراً مفارقاً يمكن حيازته بالمتيسّر من اللغة. صارت القصيدة أفكاراً تحمل دهشتها وأهميتها في محض وجودها من دون التلبّس بعلاقة خاصة مع اللغة. لسهولة هذه المهمّة تلاقف شعراء كثيرون الفكرة وأنتجوا نصوصهم التي كان لا بدّ لها أن تتشابه ويستنسخ بعضها بعضاً، وجاء الانترنت لاحقاً ليسهّل مهمتهم السهلة. والسهولة تقتل الشعر. لأنّ كون الشاعر غير ذي علاقة خاصة مع اللغة تصل حدّ العشق والهيام؛ لهو أمر في غاية السخرية والإضحاك ولن ينتج سوى كلام رميم يضطرّ الشاعر بعده للتعويض عن هزاله إلى تجريب صنوف الاستعراض غير المفضي إلى معنى. خطأ هذا الشاب البريء أنه قلّد طريقتين إحداهما أسهل من صاحبتها: تهتّك الشعراء الاستعراضيين، وفقر دم اللغة والخيال عند شعراء يظنّون أن الشعر يؤدّى بمعزل عن لغةٍ تُحَبّ ويُنظَر لها بيتاً للوجود كما نصّ هيدغر.
اخترْ لنفسك، فالشاعر سادنٌ في بيت اللغة أو متشابه مع متشابهين.