أحمد عبد الحسين
ميشال فوكو لخّص الأمر بجملة واحدة "تحدث حربٌ أهليّة حين تكون فئتانِ، إحداهما ليست قويّة بما فيه الكفاية لتنتصر، والأخرى ليست ضعيفةً جداً لتستسلم". وبالاستغراق في الجملة يظهر أنَّ خطر اندلاع حرب أهليّة قائمٌ كلَّ حين في كلِّ نشاط إنسانيّ ممكن، لأنَّ الحياة دائماً وأبداً صراع إرادتين؛ بين حائزين على مكاسب، ماديّة أو رمزية، وأولئك الذين يطلبونها لأنهم لا يملكونها.
بالتحضّر والمدنيّة وتطوّر الفكر السياسي خُلقتْ مصدّات قانونيّة وأخلاقية تقلّل من أخطار اندلاع صراع مسلّح، منها الوثائق الكبرى ـ كالدساتير ـ التي تلزم الأقوياء والأقلّ قوة بالرضوخ لها. ولذا فإنَّفوكو نفسه بسحر أسلوبه كتب مقالاً عنوانه "الدم المجفّف في الدستور".
دماءُ المتصارعين يمكنُ أن تجفّف هناك، في تلك الوثيقة التي هي ـ لدى معظم الدول ـ الأقدس بعد كتب الأديان.
لكنَّ بعض الدول، ودائماً العراق ولبنان مثالان فائقا الوضوح، تبدو وكأنها صمّمتْ لتكون ساحة حرب أهليّة. لدينا دستور كُتب وصودق عليه على عجلٍ، فلم يمنع حرباً ولم يجفف دماً، وعند كلّ نزاع سياسيّ، كالنزاع الحاصل اليوم، فإنَّ الدستور آخر ما يفكّر الفرقاء باللجوء إليه.
لسبب ما تبدو دساتير هذه الدول كأنها جُمل شعرية، قابلة للتأويل بحسب فهم و"رغبة" كلّ من يقرؤها، ولذا فإنَّ الاحتكام إليها شبيه بالاحتكام إلى الأمثولات الشعرية الخالدة التي يناقضُ بعضها بعضاً، وعند اشتداد النزاع يتذكر الجميعُ فجأة أنَّ هذا الدستور مليء بالفخاخ والثغرات ويجب أن يتغيّر.
زبدة المخض أنّ نزاع الكتل السياسية الآن بين منهجين اثنين، الراغبين بحكومة أغلبيّة ضدّ المصرّين على إبقاء الوضع كما هو. وقد بلغ ذروته.
في جلسة البرلمان اليوم، كما في جلسة السبت الماضي، تحضر الفئتان اللتان تحدث عنهما فوكو، لا الأولى قويّة بما فيه الكفاية لتحسم انتصارها، ولا الأخرى من الضعف بحيث تستسلم، ولا كتاب واضح يمكن أنْ يجفّ فيه الدم.