أحمد عبد الحسين
أشيع أمس أن لبنان أعلن إفلاسه ثم نفي الخبر لاحقاً. لا داعي لأن نتصنّع الدهشة والمفاجأة. لبنان مفلس قبل إعلان إفلاسه بوقت طويل؛ سواء أكان التصريح صحيحاً أم لا، علينا أن نترك التهويل والمبالغة في التعبير عن ردود أفعالنا.
بلد فقير منقسم على نفسه وفيه مافيا سياسيّة عظيمة هي من أكبر وأقذر مافيات العالم تتلاعب باقتصاده وأمنه ومستقبل أبنائه. بلد هارب من نفسه ومن تاريخه ومن المدائح التي تتغنى بجماله، يلوب باحثاً عن ملجأ وهوّية بعد حروب أهليّة واحتلال إسرائيليّ أعقبه احتلال سوريّ، ثم وصاية فرنسية من بعيد وأخرى إيرانية من قريب، وما أن استيقظ من غيبوبته وفرك عينيه حتى جيء له بمشروع كونيّ ملحميّ عن مقاومة الشرّ في العالم وتطهير الأرض من دنس الإمبريالية والصهيونية. فتى صغير جميلٌ وجد نفسه ـ من دون أن يفهم شيئاً ـ مقاتلاً في ملحمة
آخر الزمان.
لا يحضر لبنان في ذهني إلا ويحضر معه “نشيد الإنشاد”، لأنّ لبنان في هذا السِفر، بل في الكتاب المقدّس كلّه هو اليوتوبيا، خزانة لكلّ الشؤون الفردوسيّة المعبّر عنها بالعظمة: “الملكُ سليمانُ عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان”، والحبّ: “ هلمّي معيْ من لبنان يا عروسُ معي من لبنان”، واللذائذ: “ تحت لسانكِ عسلٌ ولبن ورائحةُ ثيابك كرائحةِ لبنان”، ومياه حيّة دافقة: “ ينبوعُ جنّاتٍ، بئرُ مياهٍ حيّة وسيول من لبنان”، والجمال المضروب بالرهبة: “ ساقاه عمودا رخامٍ مؤسسان على قاعدتين من إبريز، طلعته كلبنان”.
بلادٌ بمثل هذه الفرادة التي لها تعلّق بالسماويّ المطلق، ماذا تفعل في محفل الأقوياء اللابسين رداء الرحمن لتغطية الشيطان، ويتناوب نبويّ ونوويّ على رسم ملامح وجوههم الكالحة المنتصرة؟
ماذا يفعل هذا الفتى الوديع في محاوِر الكبار القساة غير أنْ يكون قرباناً لهم؟
لبنان لم يفلس أمس، أفلس منذ أنْ قومر به في صفقةٍ كونيّة تامّة الخسران، وحُشر في مشروعٍ ملحميّ لخدمة أوهام بضعة عجائز لا يعرفون لبنان ولا نشيد الإنشاد ولا الله.