حسن العاني
من الصعب على ذاكرتي المتعبة أن تستعيد تاريخ هذا الحدث أو ذاك بعد مرور ربع قرن من الزمن، ومع ذلك فأغلب الظن أنه عام (1997)، وكنت يومها أعمل في مجلة "ألف باء"، وأتولى من بين العديد من المهمات رئاسة قسم مستحدث تحت عنوان (مدن عراقية)، هو أقرب ما يكون إلى الاستطلاع، بل هو كذلك، وقد حظي بقدر واضح من الاهتمام لكونه يقدم معلومات وافية عن مدينة البطحاء في الناصرية مثلاً إلى قارئ المجلة في بغداد أوهيت أو الحلة ..الخ، ولأن رئيس التحرير، الصديق الراحل أمير الحلو رحمه الله منحني كامل الصلاحية لتنظيم القسم وتحديد هويته فقد اخترتُ مجموعة زملاء ممن تجتمع في أقلامهم صفتا (الصحفي والأديب) من أجل أن تتحلى الكتابة عن المدن العراقية بلغة قريبة من جماليات الوصف والبلاغة وعذوبة الشعر، ومن هنا اخترت للعمل في القسم – على سبيل المثال – الزميل عبد الستار البيضاني، وآخرين لا يقلون إبداعاً وعطاء جمالياً..
في تلك السنة 1997ــ إذا صدق ظني – توجهت مع الزميلة
(منى سعيد) برفقة الزميل المصور عبد المنعم عبد الكريم إلى محافظة المثنى لإجراء استطلاع عن مركزها (السماوة) وبضع مدن أخرى، وصادف أن يكون اليوم الأول لوصولنا هو أول أيام الشهر الكريم، بعد أن شرعنا في إجراء العديد من اللقاءات وضربنا موعداً مع المحافظ – يساعدنا في ذلك الزميل سعد حسين، مدير مكتب المجلة في المثنى ــ قصدنا بعد الإفطار كورنيش السماوة، إنه كرنفال شعبي لطيف، مئات الأسر وكأنها في سفرة جماعية، وحولهم باعة الأطعمة والحلويات والكرزات والعصائر والمشروبات الغازية والشاي ولُعب الاطفال.. متع جميلة على بساطتها وبساطة النهر الذي ينساب بهدوء..
استأجرنا غرفتين في فندق المدينة الوحيد والمتواضع (جداً)، ولعل الساعة قاربت من الثانية بعد منتصف الليل حين ايقظنا من نومنا صوتُ طبلٍ وصياح، هرعنا إلى بوابة الفندق وأذهلنا المشهد الظريف الذي سرعان ماعرفنا تفاصيله، إنه طقس رمضاني خاص بالسحور، إذ يقوم شاب يدعى (أبو طبيلة) لأنه يحمل طبلاً صغيراً يقرع عليه لإيقاظ الصائمين لتناول سحورهم، الممتع والغريب في المشهد، أن (أبو طبيلة) محاط بعدد كبير من الشباب يسيرون معاً وكأنهم في تظاهرة زواج أو فرح، وعند مدخل كل زقاق يتوقف الجميع ويبدأ صاحب الطبل بالقرع بينما يؤدي الشباب من حوله الدبكة العربية، ثم تنتقل المسيرة إلى زقاق جديد، ويلتحق شباب جدد وتتسع حلقة الدبكة، وعلى ضربات الطبل وإيقاعات الدبكة (تتسحر) الناس بقلوب عامرة بالمسرة والإيمان، للأمانة التاريخية، اشتهت روحي أن أشارك الشباب رقصاتهم ودبكاتهم، ولكن مشكلتي أنني لا أجيد سوى الرقص الغربي!.