ستار كاووش
حين نتحدثُ عن فن الرسم، فلا يمكننا تجاهل اسم عظيم مثل بيتر برويخل، هذا الفنان الاستثنائي الذي بقيت لوحاته قروناً عديدة مثار إعجاب الناس والمتاحف ومؤرخي الفن وكل باحثٍ عن الجمال.
ومن بين أعماله العديدة الخالدة، اخترت لوحة (سقوط إيكاروس) كنموذج للعمل الكلاسيكي الذي احتوى على المعالجة المتمكنة وجمال الموضوع وقوة التأثير وحيوية التكوين وروعة الأداء إضافة إلى الشاعرية في صياغة التفاصيل.
يقول جانب من هذه الأسطورة الأغريقية: إن إيكاروس كان مسجوناً مع أبيه في جزيرة كريت، وذلك عقاباً من ملك الجزيرة (مينوس)، ولأجل الخلاص كان عليهما الهروب من الجزيرة، لذا استعانا بأجنحة ثبتاها بالشمع على ظهريهما بغيَّة الطيران بعيداً.
وكانت نصيحة الأب هي أن لا يقترب الابن كثيراً من الشمس كي لا يذوب الشمع وتحل به كارثة، لكن إيكاروس تجاهل نصيحة أبيه، وأخذ يعلو بطيرانه منتشياً، حتى شعرَ بأنه صار مثل الإله وهو يقترب أكثر فأكثر من الشمس، وكان لذلك عواقب وخيمة، إذ سقطَ سريعاً بعد أن أذابت حرارة الشمس، الشمع الذي ثَبَّتَ به جناحيه، وهكذا خرَّ ساقطاً في بحر إيجه.
وقد التقط برويخل هنا لحظة سقوط إيكاروس، حيث نرى ساقيه تظهران فوق سطح الماء بعد سقوطه المدوي وقد تناثر الريش حوله، فيما يحلِّق أبوه في السماء متلفتاً يتفقد ابنه.
وقد وقفَ أحد الرعاة متكئاً على عصاه، تحيط به أغنامه وهو ينظر إلى الأعلى محاولاً استيعاب ما حدث، وفي مقدمة اللوحة يظهر فلاح يحرث أرضه غير مبالٍ بشيء، وكأن الرسام أراد أن يقول هنا إن الحياة تمضي رغم كل سقوط، ونحن نسير نحو الغد مهما كانت الإخفاقات.
وفي أسفل الجهة اليمنى ينشغل صياد بعمله لا يلوي على شيء، وعلى غصن شجرة يابسة يجثم طائر حجل، لم يتحرك من مكانه وقت سقوط إيكاروس الذي ما زالت ساقاه تتحركان على سطح البحر الذي تجوبه السفن والمراكب.
وهكذا صوَّرَ لنا برويغل الجزيرة وهي تمضي قُدماً مع الحياة والعمل والانشغالات رغم كل ما يحدث.
الكثير من التفاصيل المتعلقة بحياة الفنان بيتر برويخل
(1525 - 1569) غير واضحة بالنسبة للمؤرخين، فليس هناك تاريخ مؤكد لولادته أو حتى المكان الذي ولد فيه والأماكن التي قطنها في بداياته.
وهو ولد على الأرجح جنوب هولندا (المنطقة التي هي الآن بين هولندا وبلجيكا)، لكن الشيء المؤكد هو إنه قد تركَ لنا لوحات تعتبر من كنوز الرسم على مَرِّ التاريخ، وهذه اللوحات رسمها بتقنية خاصة وخيال استثنائي وتكوينات مبتكرة، وقد عالجَ الدرجات اللونية بطريقة تحمل الكثير من الشفافية وملأ لوحاته بالعديد من التفاصيل والمفردات غير المتوقعة.
يطلق الكثيرون على برويخل تسمية (رسام الفلاحين) لأنه رسمَ هؤلاء في مناسباتهم واحتفالاتهم وأعراسهم وهم يرقصون متأبطين بعضهم بعضاً بفرح وبساطة وسعادة غامرة.
وقد رسم أيضاً مناظر طبيعية تعكس رؤيته العظيمة أزاء تكوينات الطبيعة ومفرداتها التي نسجها مع بعضها بشكل غريب وغير مُتَوَقَع، كذلك رسم الكثير من اللوحات المليئة بعشرات الشخصيات التي تتداخل بحركات مختلفة، حتى صارت كل واحدة من هذه اللوحات كإنها قرية هولندية قديمة.
وقد تأثر برويخل بالفنان الهولندي يرون بوش وخاصة في ما يتعلق بملامح الشخصيات واللوحات المكتظة بالتفاصيل. ومن أشهر لوحاته، برج بابل، عرس الفلاحين، عودة الصيادين، العميان وغيرها الكثير.