أحمد عبد الحسين
قبل الفراغ الدستوريّ الذي دخلتْه البلادُ أمسِ وبعده وأثناءَه فإنَّ سببَ الأزمات كلّها متعلّق بشخوص العملية السياسية الذين هم الآباء المؤسسون لها. حتى الوجوه الجديدة هي مجرد امتدادٍ لذات الفلسفة التي حكمتْ عقول رؤساء الكتل منذ التغيير، والانسداد الحاصل إنما هو رجعُ صدى للانسداد في تلكم العقول والضمائر.
لا يصحّ أن نسمّي ما يحدث عندنا سياسة إلا من باب المجاز، لأنَّ موضوع السياسة له ارتباط بمؤسسات الدولة وأمنها واقتصادها واستقلالها، وما يجري هنا لا يمتُّ إلى هذه الموارد بصلة. موضوع ما هو سياسيّ في العراق هو المالُ، المالُ وحده لا شريك له. هناك أموال طائلة تأتي من البترول، وما يسمى نشاطاً سياسيّاً لا يعدو كونه عملية توزيع الأموال على "مستحقّيها" من "السياسيين"، فبعضهم يصل إلى حصته بالاقتراع المؤدي إلى المنصب المؤدي إلى العقود، هناك آخرون يأخذون حصصهم كاملة غير منقوصة بالسلاح، بالتلويح به أو استخدامه إذا لزم الأمر.
أما منطقة العمل السياسيّ ففارغة من أساس وليس فيها ما يذكّر بالسياسة إلا حيازة الوضع الذي يؤهل للاستيلاء على المال، فإن نجحنا في الانتخابات فبها ونعمتْ وإن خسرنا فسنقاتل قتالاً لا هوادة فيه على إبقاء ماكان كما كان بما يضمن لنا استيفاء حصتنا، ولسنا في وارد التخلّي عنها لعيون اللعبة السياسية أو لعيون الوطن!
لا موضوع للمال إلا المال. إنه عالم مغلق ليس فيه إلا الأرقام، فالمالُ يسدّ منافذ الرؤية على صاحبه، ويجعله يهزأ بكل المصدّات السياسيّة أو الأخلاقيّة أو الدينيّة، لكنْ لا مانع من استخدام هذه الإعدادات في خدمة المال. كلمة "الله" المكتوبة على الدولار صارتْ في خدمة الدولار، وتذكّرنا بكلمة الله على دينار الذهب الذي أرادوا أن يمتحنوا به المسيح. هنا وهناك صار لفظ الجلالة في خدمة الذهب. كلّ شيء حتى المقدّس يلعب هنا من أجل الدولار.
طبيعيّ أن نكون في فراغٍ لم نخرج منه لندخله، لأنَّ ما يمارسه سياسيو العراق ليس سياسة أبداً. هذه بورصة أغنياءٍ يتنافسون على مالٍ وفير لا ينقطع.
نحن في فراغ سياسيّ لأننا بلا سياسة، وفي فراغ دستوريّ لأننا ننكّل بالدستور. ذلك سبب ارتكاسنا الأخلاقيّ وسبب جعل الدين هزأة عند كثير من الشباب، لكنّه أيضاً سبب مؤكدٌ للطغيان، فهؤلاء الطغاة، قساة القلوب الذين يسمّون أنفسهم ساسة إنما طغوا بسبب انغلاق عوالمهم على المال وحده. وقد شخّص لنا قرآننا العظيمُ قاعدة لا استثناء فيها "إنَّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى". كلّ مَنْ يغلق أبوابه ونوافذه على عالم المال وحده لا شريك له سيصبح طاغية وإنْ لم يردْ ذلك.