أحمد عبد الحسين
مصير الإنسان تخلقه كلمة. كلمة واحدة صادقة يمكن أن تضع حياتك كلّها على جادّةٍ ما كنت تحسب أن تطأها أبداً. الكلمةُ التي سمعها اللصُّ الفضيل بن عيّاض، كان يتسوّر حائط بيتٍ ليسرقه، فتناهى إلى سمعه من النافذة صوت فتاة تقرأ آية "ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر الله"، فقال وهو على الحائط: "بلى واللهِ قد آن". ونزل من حائطه ليصبحَ أشهرَ متصوّفة زمانه بعد أن كان أشهر لصوصه. هي ذات الكلمة التي سمعها بشر الحافي من فم الجارية في الحكاية المعروفة، هي ذات الكلمة التي تدور منذ بدء الخلق تفتش عن ضمائر مستعدّة لأن تصغي وتتغيّر.
لكلّ إنسانٍ كلمتُه التي تنتظره بقدر ما ينتظرها هو، كأنما خُلقتْ من أجله وحده. وأنا جاءت كلمتي إليّ قبل أن أبلغ الحلم، حملها لي شريط كاسيت يتداوله الرفاق بسريّة تامّة، وما أن تضعه في المسجّل حتى يغمرك ما لا تستطيع الإفلات منه في ما بعدُ. يأتيك صوت المتحدّث صادقاً ويختصر لك الأمر، لتظلّ تحمل هذا الصوت وشماً على روحك تستعيده حتى وأنت في كهولتك.
الصوت لمحمد باقر الصدر، والمحاضرة عنوانها "حبّ الله وحبّ الدنيا"، وكنتُ ككثير من أبناء جيلي أحفظ هذه المحاضرة عن ظهر قلبٍ، وأردّدها على مسامعي لأظلّ محتفظاً بنقاء الفكرة التي تضع الدنيا وما فيها في كفّة، وذات الإنسان المجرّدة من كلّ تعلّق بالممتلكاتِ في كفّة أخرى، وكيف أن الذات في تجرّدها عن التعلّقات ترجح وتنتصر.
أُعدم السيّد في يومٍ كابوسيّ لن أنساه أبداً. لكنّ كلمته غيّرتْ مصيري، هاجرتُ وأنا ابن عشرين سنة وتغربتُ ورأيتُ هناك كثيرين ممن يدّعون أنهم ورثةُ كلمات الصدر ونهجه، فظهر أن كفّة الميزان لديهم رجّحتْ الممتلكات والمسكوكات المادية وأهدروا ذواتهم على مال حرامٍ وسلطة غشومٍ وظلم كبير للعباد.
اليوم ذكرى استشهاد الصدر، وذكرى سقوط صدام أيضاً، فقد دارت الدنيا وسقط قاتلُ الصدر هو وتمثاله في ذكرى إعدامه، ولن تتكدّر الذكرى بمجيء أناس ختم حبُّ الدنيا على قلوبهم بختمه الأسود، لأنّ الكلمة الصادقة المسدّدة إلى القلوب لا تخطئ هدفها. فكثيرون، أكثر مما نتخيّل صار لهم ـ بفضل تلك الكلمة ـ أفقٌ نقيّ يسعون إليه.