عناصر التجديد المنهجي في مدرسة الصدر

العراق 2022/04/09
...

  بغداد: الصباح
علينا أن نعترف أن أحد مشكلات الفكر الإسلامي الكبيرة، هي مشكلته مع المنهج. ومشكلة المنهج تكتسب في ممارسة الإسلاميين الفكرية أبعاداً مختلفة، ومن ثمّ فهي مشكلة ذات وجوه. وما يعنينا من هذه الأوجه هي ظاهرة نطلق عليها: “العبث المنهجي” تنتج من جدّة التعرّف على بعض المناهج، وما تبعثه هذه الجدّة من فرح واهتمام على نحوٍ يبلغ حدّ الإفراط ونسيان المضمون، والمهمّة الأساس للمنهج.
حال هذه الممارسات يشبه من يتعرّف على عدد من المصطلحات في علم لا يعرفه، أو من يعرف عدداً من مفردات لغة يجهلها أو يكون على الأقل في بداية تعلمه لها، إذ تراه يقحم تلك المصطلحات وهذه المفردات في كلامه ولغته بمناسبة وبغير مناسبة. وحال هذا الإنسان تختلف حين تنضج عنده الرؤية المتكاملة للعلم الذي تنتمي إليه تلك المصطلحات، وحين تكتمل معرفته باللغة المفترضة، إذ يتحوّل إلى الوضع العادّي فيتصرّف مع المصطلح في المجال الخاص له، ومع مفردات اللغة في المحلّ المناسب.
 
إشكالية المنهج الموضوعي
ما نخشاه أن تكون بعض ممارسات المدرسة الإسلامية في تعاطيها مع فكرة “المنهج الموضوعي” تعبّر عن أزمة من هذا القبيل، إذ رأينا الواقع الذي تنتسب إليه بعض أمثلة التفسير الموضوعي، أخذت تبتعد جزئياً أو كلياً عن الهدف المراد لهذا التفسير، بل ربما لا صلة لبعضها بروح التفسير الموضوعي فيما يرمي إليه، وفي مكوناته وفي خطّه، إلا بمحض الانتساب إليه، وبرفع شعاره المنهجي.
لقد شهدنا في غمرة العقود الأربعة المنصرمة ولادات شوهاء على طريق ممارسة منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ليس فيها جهد سوى عودة أصحابها إلى: “معجم مفردات القرآن الكريم” واستقصاء مجموع الآيات المتوحدة في اللفظ.
طبيعي أن لكلّ باحث الحرية في أن يختار المنهج الذي يريد، بيدَ أنّ المشكلة التي تبرز في مسألة التفسير الموضوعي، أن ثقافة الفكر الإسلامي انفتحت على فهم خاص لهذا المنهج، وأخذت تنتظر من باحثيها أن يخطو الخطوات العملية في ذلك المسار الخاص، بحيث تأتي خطواتهم هذه اقتداءً بروح ذلك المنهج وتطبيقاً له، بل وتعميقاً للتطبيق، لا أن تزيغ الممارسة عن روح المنهج وأهدافه.
ومع الصدر تحديداً شهدنا إعلان البيان التأسيس لطريقة خاصة في ممارسة المنهج الموضوعي في التفسير، ومن ثمّ فإن القاعدة المتماسة مع مدرسة الصدر، تنتظر من المنتسبين لهذه المدرسة، أو الحاملين للواء التفسير الموضوعي، أن تأتي تطبيقاتهم بالاتجاه الذي يُحقّق المراد من روح ذلك البيان، لا أن تنكفئ الممارسة وتسقط فيما لا شأن له بالمنهج المذكور إلا محض الانتساب.
أما سبب هذه الظاهرة، فهي تكمن على الأغلب، في أن الدارس يتعرّف على المنهج تعرّفاً عرضياً طارئاً، في حين لم يصل صاحب المنهج الأصيل إلى ما وصل إليه، إلا من خلال المعاناة، وعبر اكتمال حلقات مساره الفكري.
 
الولادة الطبيعية للمنهج
بالنسبة للسيّد الصدر تحديداً، نجد أن ولادة فكرة التفسير الموضوعي لديه هي ولادة طبيعية عادية، وهي تتويج لمساره الفكري ونضجه على هذا الخطّ، في حين ما يحصل عند بعضنا، أنه يُسقط الحلقات المترابطة كافة في مسار الصدر كمفكر، ويحاول أن ينفذ إلى حلقة واحدة فقط اسمها “التفسير الموضوعي”، متناسياً أن هذه الحلقة لا تنبت إلا في أرضها، ولا تنبع إلا من خلال جو مماثل من المعاناة والنضج والتكامل الفكري، مع توافر العدّة والمؤهلات التي تستطيع أن ترفع صاحبها إلى مستوى المنهج المنشود. حين نعود إلى الشهيد الصدر في جميع أبعاد إنتاجه الفكري (في الجانبين العلمي الحوزوي والفكري) ونتابع البدايات، نجد أنه وباستمرار كان يعبّر عن روح المنهج الموضوعي، عبر عنصرين اثنين على الأقلّ، يشكّلان قُوام المنهج، هُما “الترابط” و”الانفتاح على الواقع ووعيه”.
 
عنصر الترابط
الترابط على صعيد دراسة أجزاء الفكرة الواحدة، أو على صعيد علاقة هذه الفكرة ببقية جوانب الإسلام، هو ثابت منهجي في جميع أعمال الصدر، لا نستثني منها حتى كتابه الأول: “فدك في التاريخ”. فهو لم يدرس فدكاً كواقعة منعزلة، أو كفكرة مستقلة، بل وصلها ببقية أجزاء  المشهد التأريخي لصدر الإسلام، فتواصلت الأفكار وترابطت وخرج الصدر بنظرية في قراءة التأريخ وتفسيره.
وفي كتاب “فلسفتنا” مثلاً يبرز عنصر الترابط بشكل أوضح على صعيد فكرة الكتاب أو على صعيد علاقة موضوعه ببقية جوانب الإسلام. لنعود إلى المقدّمة وما تحكيه من ترابط نظرية المعرفة والمفهوم الفلسفي للكون، ثمّ لنتمعّن جيداً العلاقة بين بحث نظرية المعرفة والمفهوم الفلسفي للعالم، وبين العرض العام الذي توفرت عليه المقدّمة حول مشكلة الإنسان الاجتماعية.
أما في كتاب “اقتصادنا” فلا نحتاج أن نعبّر عن عنصر الترابط في المنهج الفكري للصدر وفي ممارسته من خلال الاستنتاج، إذ يكفينا نص ما يكتبه: “يؤكد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام..، بوصفه كلاً لا يتجزأ”، ثمّ يعود لتأكيد أهمية مبدأ الترابط في تقديمه للجزء الثاني من الكتاب، وبالتحديد في فقرة: “الاقتصاد الإسلامي جزء من كلّ”.
حقيقة الأمر أن حضور هذا العنصر معلول في الواقع لنظرة الشهيد الصدر الشاملة إلى الإسلام. وما أحسب أن أحداً يختلف معنا، في أن هذه السمة تبدو واضحة جلية في بقية آثاره، بما فيها: “الفتاوى الواضحة” إذ قدّم بالعقيدة التي هي كما يقول: “القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي”، ثمّ انتقل إلى النظام التشريعي في خطّه الأول؛ خطّ العبادات على مستواه الفردي، ثمّ أعقب ذلك بخاتمة عن “فلسفة العبادات”.
 
الانفتاح على الواقع
ربما استطعنا أن نعبّر عن هذا الجانب في شخصية الصدر، بوصفها شخصية حركية - ليس بالمعنى التنظيمي الأحادي - مهتمّة بتغيير الواقع على أساس الإسلام.
هذه الخصلة في شخصية المفكر، تترك بصماتها في فكره ومنظومته، وقبل ذلك في منهجه وطريقة تفكيره. فحين كان مالك بن نبي مثلاً مهموماً بتخلف العالم الإسلامي، انعكس هذا الهمّ على تفكيره الذي قاده لصوغ معادلة الحضارة وسوق الأمة صوب النهضة، وعندما كان سيد قطب مهموماً بالتغيير انعكس ذلك على طريقة تفكيره ومنظومته، ومحتوى الفكر الذي اهتمّ به.
والآن حين نعود مع هذين العنصرين المنهجيين، نجد أنهما دخلا في قُوام المنهج الموضوعي وتركيبه، بالصيغة التي حدّد الصدر معالمها ومارسها عبر محاضراته القرآنية.
وإذا جاز لنا أن نستعجل النتيجة، فإن المنهج الموضوعي في مدرسة الصدر، لا يكون حينئذ مجرد نقلة في إطار الهمّ المنهجي بمعناه النظري والأكاديمي، وإنما هو مزاوجة بين طريقة فهم الإسلام على أساس المنحى الترابطي، وبين وعي واقع المسلمين وحمل هموم التغيير. وحين يكون المنهج حصيلة هذين المكونين، من دون إغفال العناصر الأخرى من قبيل عدّة المفكر ومؤهلاته العقلية والذهنية، فلا ننتظر من محاولة تدخل الخط بدافع الافتتان بالجدّة، والاستعجال في تسجيل الإنجاز على خطّ المنهج الموضوعي؛ أن تسجّل نجاحاً على مستوى استحضار المنهج في القواعد التي بناها الصدر لذلك، ولا على مستوى الارتقاء إلى الأمثلة التي تركها، بالروح النابضة فيها، بل نقول أكثر من ذلك إنها لم تفلح حتى في المسايرة والمحاكاة، لماذا؟ لأنها تمثل عملاً طارئاً لم يتوفر على البُنية المنهجية ذاتها التي تحرّك الصدر من خلالها.
 
المنهج الموضوعي عند الصدر
سنعتمد على الارتكازات التي نتوفر عليها جميعاً في معرفتنا لمنهج التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر. فأركان هذا المنهج وربما نصوصه راكزة في وعي القاعدة المتماسّة مع فكر الصدر المنفتحة على مدرسته. لذلك سنكتفي بالاستنتاجات والأفكار الأساسية عن الدخول في التفاصيل.
حين نعود إلى المحاضرات القرآنية للسيد الصدر التي سبقت استشهاده قليلاً، نجد أن قيمة منهج التفسير الموضوعي تكمن في هذه المحاولة، عبر إيجاد صلة تفاعل ورابطة وثيقة بين القرآن وحركة الحياة. وهذه الرابطة ليست متساوية الطرفين أو متكافئة، كما هي ليست ندية، بل القيمومة فيها لكتاب الله، وله المرجعية والكلمة الأخيرة. فالقيمومة للقرآن، ولكن تمثّلها يرتبط بشروط ومقدّمات، ومن شروطها الفكرية أن يتوفر المفسّر على بلورة فكر قرآني ينفتح كتاب الله من خلاله، إزاء ما يكتنف الحياة الإنسانية من قضايا ومسائل وهموم.
المنهج الموضوعي يُنقذ التفسير من أن يقع في طابع التكرار الممل، وكذلك يفتح عين الإنسان المسلم على خزائن القرآن التي لا تنفد، وعلى كلماته الباقية أبداً ما بقي الليل والنهار، وذلك بعكس المنهج التجزيئي الذي يحوم حول كتاب الله، من خلال اللغة وعبر الطاقات المحدودة للمدلولات اللفظية. يقول الصدر: “المسألة هنا [في الموضوعي] ليست مسألة تفسير لفظ، فإن طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية.. القرآن الكريم عطاء لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد، لأن اللغة لها طاقات محدودة”. والمفسّر في التجزيئي يحبس نفسه في حركة مغلقة، حيث يخبو عطاؤه ويتضاءل بعد مدّة طالت أم قصرت، لأنه في حركة محدّدة من النصّ إلى النصّ: “التفسير التجزيئي يبدأ من  القرآن وينتهي إلى القرآن”.
 
احتواء الواقع
المنهج الموضوعي في مدرسة الصدر، رحلة مع القرآن تغادر أطواق اللغة وتتجاوز محدودية الألفاظ، لتتحرّك في آفاق المعنى وتجارب الحياة الممتدّة دون نهاية، إلى أن يبلغ الإنسان شوطه الأخير في هذه الحياة. بتعبير الصدر: “المفسّر التوحيدي والموضوعي لا يبدأ عمله من النصّ، بل من واقع الحياة.. ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول”.
في مثل هذه الممارسة: “يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة، لأن التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن”، وبهذا: “تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً؛ قدرته على العطاء المستجد دائماً، قدرته على الإبداع”، لأن عمل المفسّر لا يرتبط بتفسير لفظ، ولا يدور في حركة مغلقة من النصّ إلى النصّ، بل تأتي النتائج: “مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية، لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية، بشأن موضوع من مواضيع الحياة”. كما لا يرتبط أيضاً بمفهوم قرآني نختاره ثمّ نبحث له من المصحف مجموع الآيات التي تتصل به، كما هو الحال في مشاريع التفسير الموضوعي التي أطلّت علينا، من خلال أعمال جعفر سبحاني ومكارم شيرازي وجوادي آملي كمثال، حينما اختارت من المنهج الموضوعي خطوته الأولى ـ توحيد البحث حول المفهوم ـ وأهملت الخطوة التالية والأساس؛ المتمثلة بالواقع وبتجربة الفكر الإنساني وبناء النظريات.
هذا هو الدرس الأهمّ الذي نستفيده من استعراض معالم المنهج الموضوعي، في المحاولة التي صاغ السيد محمد باقر الصدر مقدّماتها وعرض لخطوطها العامة.
 
اتجاهان في الموضوعي
ثَمّ مسألة أخرى لها أثرها في صياغة وعينا بمعنى التفسير الموضوعي، تنطلق هذه المرّة من الآفاق التي أشار إليها السيد الصدر في التعريف بهذا المنهج. إذ ثمّ معنىً ارتكازياً في أذهاننا يُغذّي وعينا بمفهوم معيّن للتفسير الموضوعي، لا يعدو بملامحه الأولية العامة، على أن يتوفر المفسّر متابعة موضوع يختاره من مواضيع الفكر، ليبحث من خلال مجموعة الآيات التي تتناوله، موقف القرآن منه.
الشهيد الصدر لم يلغِ هذا التصوّر وإنما تجاوزه إلى معنى أرحب يتسم بالحركة والحيوية، فهو يقترح للاتجاه الموضوعي عنواناً مزدوجاً هو: التفسير الموضوعي ـ التوحيدي، ثمّ يصرف دِلالة هذا العنوان إلى تعريفين هما:
الأول: يعني اصطلاح الموضوعي في التعريف الأول، الانطلاق من الموضوع ومن الواقع الخارجي، ثمّ يعود المفسّر إلى القرآن الكريم. وهو توحيدي باعتبار أنه يوحّد بين التجربة البشرية والقرآن، ولكن لا بالمعنى الذي يحمّل التجربة البشرية على القرآن، ويُخضع القرآن لها، بل بمعنى أنه يوحّد بينهما في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحّد من البحث، ويستنبط المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام، اتجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي أدخلها في سياق بحثه، دائماً بحسب نصوص الصدر.
الثاني: أما على أساس التعريف الثاني فيأتي التفسير الموضوعي، باعتبار أنه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد. وهو توحيدي بصفة كونه يُوحّد بين هذه الآيات، ويستنبط من حصيلة مدلولاتها مركباً نظرياً واحداً.
لا ريب في أن تمديد المعنى وتوسيعه على هذه الكيفية سيكون له أثره في التفسير، بحيث تترتب عليه نتائج جديدة في عمل المفسّر، كما رأينا ذلك جلياً في المركبات النظرية التي تركها لنا الصدر، حول الإنسان والمجتمع والعمران، ضمن محاضراته القرآنية.