علي حمود الحسن
استطاع المخرج الإيراني مجيد مجيدي(1959) أن يفرض أسلوباً بسيطاً ومتقشفاً، للخروج بسينما بلده إلى العالمية، بميزانيات تكاد ألا تذكر، بالنسبة للإنتاج السينمائي التجاري، وبمواضيع غير محسوسة لبساطتها، وخلوها من كل مزوقات السينما، لكنها تمجد الجوهر الإنساني بفطرته واتساقه مع الوجود، ومن هنا عبقرية مجيدي و فيلمه "صبغة الله"، الذي يحكي قصة الطفل القروي الكفيف محمد(محسن رمضاني)، الطالب في مركز تأهيل المكفوفين وسط طهران، الذي يتعلم القراءة بطريقة "برايل"، ويتميز بنباهة وتحسس ما حوله، من خلال الصوت واللمس، ويحلم بالعودة إلى قريته، لكن أباه الأرمل عامل الفحم المكدود(حسن محجوب) يعتقد بأن ابنه البكر سيعرقل زواجه من ابنة إحدى الأسر الميسورة، فيقترح على مدير المركز أن يبقيه في المركز خلال العطلة الصيفية، لكن المدير يرفض، يصل محمد وأبوه إلى القرية، ويعيش بسعادة، لكن أباه يعود به إلى نجار كفيف ليعلمه الصنعة، يخفق زواج الرجل، فيأتي بابنه الذي يقع هو وحصانه في الماء الهائج، ولم يستطع الاب إنقاذه، ثم يعثر عليه ميتاً، وينحب عليه نادماً .
هذه الحكاية البسيطة حولها مجيدي الذي كتب السيناريو لها إلى تحفة بصرية، منتقلاً من الهم الفردي وحتى الاجتماعي المحدود نحو آفاق الجوهر الإنساني.
متسائلاً عن القضاء والقدر وهل نستكين لما فقدناه من نعمة البصر أو السمع أو الحركة، أليس هنالك عوالم موازية ربما تكون أكثر رحابة من عوالمنا التقليدية؟
خطان سرديان، أحدهما يمثل محمد الكفيف وجدته وأختيه ومعهم مدير المركز والنجار البصير، هذا الخط يرفل بالجمال والسلام والتصالح مع الذات، على الرغم من فقدان البصر وأسى الجدة، لكنهم وجدوا أنفسهم في تصالح مع الطبيعة الخلابة والفطرة السليمة، بالمقابل الخط السردي الذي يمثله الأب البائس والمتشائم الذي يحس بالعار لأن ابنه البكر أعمى، وجهتا نظر متناقضتان، لكنهما جزآن من نسيج نفسي يجمع الأسود والأبيض بل والرمادي أحياناً، فالأب يريد إبعاد ابنه الكفيف من حياته، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، ربما هذا يفسر تردده لوهلة، قبل أن يرمي نفسه بعد سقوط محمد وحصانه من الجسر الآيل للسقوط وسط لجج أمواج النهر الثائرة، تتقاذفه الأمواج ويستسلم لجبروتها، وفجأة يجد نفسه على الشاطئ، وليس بعيداً يرى جثة الطفل مرمية على الرمل، فيحتضنه وينهار باكياً، هذا المشهد التراجيدي لا يتركه مجيدي بكل هذه القتامة، إذ تقترب الكاميرا بلقطة مكبرة ليدي محمد الصغيرتين وقد انفرجتا مثل زهرة، فكأنه أمسك يد الرحمة من خلال كل تلك الموجودات التي لمسها.