تجربة مثيرة

الصفحة الاخيرة 2022/04/16
...

جواد علي كسار
لم يكتب رائد الإسلامية التركية الحديثة سعيد النورسي المشهور بلقب بديع الزمان (1877ـ 1960م) تفسيراً تقليدياً للقرآن الكريم على غرار ما فعله مثلاً الطبري والطوسي والرازي من الأقدمين، والآلوسي ومحمد عبدة وجمال الدين القاسمي من المحدثين، أو الطباطبائي ومغنية ومصطفى المراغي من المعاصرين؛ بل كان غاية ما تركه وراءه من القرآنيات، هو ما جاءنا مبثوثاً في مشروعه المعرفي ـ المعنوي «رسائل النور» التي بلغ تعدادها عند وفاته (130) رسالة.
مع ذلك فتجربة الرجل مع القرآن تنطوي على ثراء باذخ، فهو الذي يقول في واحدة من روائع نصوصه، بأنّ القرآن عقل الوجود، لو خرج منه لاضطرم أمر هذا العالم وجنّ: «القرآن بمثابة عقل الأرض، لو خرج منها لجُنّت الأرض»، كما يصفه بأنه: «لسان الغيب في عالم الشهادة» وهو: «خريطة مقدّسة لعوالم الآخرة» وأنه: «ترجمان ذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه».
ينطلق مع كتاب الله ضمن رؤية مقاصدية منظمة، توجز كبرى مقاصد القرآن في أربعة، هي: «التوحيد والنبوة والحشر والعدالة مع العبودية»، ومع أن هذه المقاصد منبسطة على المعاني القرآنية جميعاً، فذلك لا يمنع وجود مقاصد فرعية لكلّ سورة، على النحو الذي تتحرّك فيه هذه المقاصد الفرعية للسور، على هدي خريطة المقاصد الكبرى.
بشأن منهج الفهم العام للنص القرآني، يؤسّس النورسي لثلاثية قوامها؛ التعامل مع الكتاب التدويني المقروء، إلى جوار نظام الوجود أو كتاب التكوين، من خلال التعانق القائم بينهما والعلاقة الجدلية بين التكوين والتدوين، على النحو الذي يفسّر أحدهما الآخر، فالقرآن نسخة لفظية للوجود، والوجود صورة تكوينية للنص القرآني؛ وكلاهما قرآن لكن بضابطة الإنسان الكامل، ومن خلال الآية الكبرى لهذا الكتاب، الممثلة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله، فهو معيار الفهم وميزانه.
في معرفة الله يمرّ النورسي على ثلاثة مناهج تؤدي غرضها؛ هي المنهج الصوفي والكلامي والفلسفي، لكنه يُسجّل أنها تبقى ناقصة ومتعثّرة، أمام منهج القرآن الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الله سبحانه، من أقصر الطرق وأقربها.
تجربة مثيرة مع كتاب الله فيها الكثير من جوانب الإيحاء، أخذت بيد صاحبها نحو ستة عقود من التقلّب بين المناهج، وفي معترك الحياة سجناً ومطاردة ونفياً، وها هي أمامنا بالمجان باقية ما بقيت الكلمات.