أحمد عبد الحسين
حين أطلق أوكتافيو باث نصيحته "أيها الشاعر تلزمك فلسفة قويّة" كان يعرف ـ وهو الشاعر المتفلسف ـ أن كلّ ما هو جماليّ، وليس الشعر وحده، لا بدّ أن يستند على فلسفة قويّة. لماذا؟ لأنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يريد أن يعيش كيفما اتفق، يريد عيشاً بامتياز، بدليل أن حاجاته الأساسيّة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن لم يقفْ بها عند الضروريّ بل جعل منها فنوناً وجماليات، كفنون الطبخ والأزياء والعمارة. ووراء ذلك تكمن رؤية فلسفية ووعي يشكّلان البيئة التي يعيش فيها الإنسان حياته.
السكن ضرورة والمسكن جزء من هويّة الفرد، نعم. لكننا بالانتقال من الضروريّ إلى الثقافيّ سنكون بإزاء العمران الذي هو هويّة المدينة وتجلّي قيمها العميقة تاريخياً ودينياً وثقافياً. وبهذا فإن العمران كاشفٌ عن الفلسفة القويّة أو المرتكزات التي يتواطأ عليها المجتمع.
غياب الهويّة المعمارية عن بغداد ليس أمراً مفاجئاً ولا نتاج صدفة، بل هو تحصيل حاصل لهذه الفوضى التي تتنازع أبناءها، مسؤولين ومواطنين. هناك تزاحم بين المدنية والترييف، وبين التديّن والتحديث، والأهم من كلّ ذلك التزاحم بين فلسفتين؛ تدعو الأولى إلى العيش بأقلّ قدرٍ من الجمال وأخرى تريد للحياة أن تكون فناً للعيش.
أشاعت الطبقة السياسيّة نمطَ حياة غاية في البدائيّة، بل العدمية، مؤداه أن البلد بأسره دارَ نهبٍ، والناجح فيهم هو القادر على نهش حصة أكبر من صاحبه، ولذا فإنّهم انشغلوا عن كلّ شيء سوى ترقيع وضعهم الشخصيّ بتمزيق وضع البلد.
هؤلاء البُداة أبقوا حياة الناس في حدّها الأدنى وفي حدود الضروريّ، لأن فلسفتهم تحتّم عليهم إفقار الحياة العامة وتتفيهها، ومن دون ذلك لن تغتني حياتهم الشخصيّة. والمعضلة أنّ الأعم الأغلب منهم يعانون فقر دمٍ في الذائقة وكساحاً في الخيال وشللاً في القدرة على العيش السويّ والتمتع بالحياة، لأنّ بينهم والثقافة جداراً من نارٍ، إنهم كائنات مصممة لتحصيل المال ومراكمته بعضه فوق بعض.
طبيعيّ أنْ تخرب المدينة، وطبيعيّ أنْ يعجز مسؤولوها عن صبغ المباني وإنارة الشوارع وتنظيف الأرصفة، أما الحديث عن إيجاد هوية عمرانية لبغداد من خلال مزج حاضرها بماضيها فذلك "حديث خرافة يا أم عمرو".
العدميون الذين يحكموننا ويتمتعون تمتّع الهِيم بلا تحضّر ولا ذائقة سليمة لن يتركوا شاهداً يدلّ على عبقريتهم سوى أطلال البيوت التراثية المهدمة وجدران الألكوبوند القبيحة الدالّة على رصيدهم من المعرفة والجمال والفنّ والثقافة.
في الصفحة الأولى من هذا العدد تقرير عن تخريب هويّة بغداد العمرانية.