أحمد عبد الحسين
بَدأتْ في وسائل التواصل الاجتماعيّ مراجعات خجولة للحدث العراقيّ الأبرز منذ التغيير، أعني انتفاضة تشرين. المراجعة بدأتْ من قبل الشباب المحتجين أنفسهم، عملياً من خلال إعلان فشل بعض الأحزاب التي أُسستْ بوحي من روح الاحتجاج، وسيل الاستقالات منها يؤشر خللاً رافق استثمار الحدث سياسياً، ونظرياً من خلال المنشورات التي نقرأها يومياً عمّا كان ينبغي أن نفعله ولم نفعله، وما كان ينبغي أن نتجنبه ولم نتجنبه.
يبدو أن الجميع كفّ عن الخطاب الإنكاريّ أو الاتهاميّ، فلا أجد تخويناً أو تشكيكاً بوطنية أحد ولا بنزاهته، صارتْ هذه اللغة مضحكة، وحتى جيوش الأحزاب الإلكترونية نسيتْ تقريباً قصص عمالة المتظاهرين للخارج أو حكايات الجوكر المبتذلة لفرط كاريكاتيريتها وسخفها.
لكنّ هناك جانبين خطيرين لا يزالان يطلّان من بين المنشورات:
الأول: التعاطي مع أبناء تشرين باعتبارهم قبيلة فريدة، فصيلة نادرة معرضة للانقراض من العراقيين، وهذا ـ بالإضافة إلى مخالفته للواقع ـ يجعل بين الشباب المحتجين وسائر الشعب سدّاً يحجزهم عن التأثير فيهم ويقلل منسوب التعاطف معهم في قادم الأيام.
الثاني: النزعة الرغبوية. لاحظتُ أن بعض الناقدين يجعل من رغباته التي لم تلبّ في الاحتجاج دستوراً أضاعه المحتجون فضاعوا. يكتب أحدهم أن «الثورة فشلتْ لأنها رفعتْ شعاراً دينياً هنا، أو أوقفت الاحتجاج أياماً احتراماً لمناسبة دينية»، رغبته العميقة أن يكون الاحتجاج ثورة علمانية جذرية أو لا تكون.
إعلاء الرغبات تبسيط للواقع، فالعلمانية لا تتحقق بثورة ولا باحتجاج، هي تراكم معرفيّ يرافقه بناء مؤسساتيّ. وأحسب أن هذه الرغائبية تخالط الاحتجاجات في كل بقاع العالم ولم تصبْ الشبّان قليلي الخبرة وحدهم، بدليل أن مثقفاً كبيراً «أدونيس» كانت له تصريحات أبان الثورة السوريّة لا تبتعد كثيراً عن هذه الرغائبية «لا أشارك في ثورة تخرج من المسجد». جذريّة تُخلي صاحبها من المسؤولية وتنهي شعوره بالذنب، لكنها خطيرة لأنها لا تريد قراءة الواقع للاستفادة مما فيه.
إنْ كانت «تشرين» جعلت من فرسانها واقعيين لا رغائبيين فقد حققتْ منجزاً عظيماً، لأنّها بهذا وحده سيكون لها صوتٌ وستجدّد نفسها باعتبارها الحلقة الأقوى ـ حتى الآن ـ في سلسلة المدّ الاحتجاجيّ المستمر ما دام هناك ظلم وفساد وفقر وبطالة وانعدام خدمات وعملية سياسية مصممة لتكون في خدمة بضعة
أفراد فاشلين جشعين.