بغداد: نوارة محمد
كان المكان يعج بقرقعة الأطباق وطلبات الزبائن، وهي تترك فوضى يمكن ملاحظتها، ممتزجة بضجة إطلاق مدفع الإفطار وتكبيرات أذان المغرب من التلفزيون القابع في الزاوية.
في أحد المطاعم الفخمة تُقدم الأطباق الشهية بدقة، وأغلب الحاضرين ينحدرون من أرقى الأحياء السكنية.
يبدو هذا واضحاً من أنواع عطور الماركات وهي تفوح من ملابسهم، لم يكن هنالك ما يلفت الانتباه سوى صياح رجل بدين لم يستطع تجاوز سقوط كوب عصير سهواً على طاولته بل بدأ بتوبيخ النادل الذي خذله ذكاؤه بأقبح الكلمات..
- أعمى! انت ما تشوف
كلنا شهدنا حالة الذعر وهي تطوق المكان، شهدنا وجه النادل وملامح الذل وهي تعتري سمرة وجهه بينما يردد "أسف وأعتذر عمي".
ينظف بقايا العصير ويردد بحروف باردة جمل الاعتذار التي اعتاد على قولها محاولاً المحافظة على كرامته.
ولأن الزبون دائماً على حق، لذا فإن صاحب المطعم بلحيته الفضية وكرشه المكور قرر أن يُكرّم زبونه بعدم تسديد فاتورة وجبة طعامه ومن معه، لأنها ستخصم من أجور النادل الذي لم ينبس ببنت شفة، لا سيما أن كل شيء يسير هنا حسب مزاج
صاحب المطعم.
كل شيء ينغمس بذوقه، اختيار الموسيقى والمحطات التلفزيونية، وأحياناً طبيعة اللوحات المعلقة على الجدران إنها غالباً ما تجسد آراءه وتناسب مخيلته.
لم تكن المرة الأولى بل أصبحت هذه المشاهد مألوفة تلك التي يُهان فيها العامل ويُوبخ النادل لأسباب أو من دون أسباب، قال أحدهم متوخيّ الحذر: لكن لا ذنب له ليعاقب بهذه الطريقة بعد حفلة الشتائم!
- حجي هذا غلطة.
تجمدت ملامح النادل قبل أن تتحرك شفتاه:
- لا بأس هذهِ غلطتي، وأنا سأدفعُ ثمنها.
انغمس النادل بقميصه الأبيض وفيونكته الحمراء بين طاولات المطعم يُلبي طلبات الزبائن مبتسماً ومن دون أن تنفرج شفتاه يجيب
- حاضر
وبدأ الجميع يتناولون طعامهم بنهم كأن شيئاً لم يحدث!
تذكرتُ القسوة التي يخبئها هذا العالم، كم نحن قساة بالفطرة.
قساة حين تتاح لنا الفرصة لذلك.