دفتر يوميات

الصفحة الاخيرة 2022/04/19
...

حسن العاني 
 
لا بصيص شمعة في وسط النفق المظلم، ولا في نهايته، رفضوا قبول ولده المتفوق دراسياً في كلية الطب، مثلما رفضوا قبوله في الكلية العسكرية وفي كلية الشرطة لأنه ليس بعثياً وغير منتمٍ إلى صفوف الحزب القائد، فالولد سليل أسرةٍ كفاها الله شر السياسة وأبعدها عن متاعب الأحزاب، ولكن (القبول) مع كل عام جديد يتسع ويتعمق بمعناه السياسي والحزبي، أنت بعثي إذن أنت مقبول، وهكذا أصبحت مفاصل الحياة العملية والوظيفية والدراسية خاضعة لهذا التوجه، وتحت ضوابط هذا التوجه رفضوا قبول ابنته في معهد المعلمات، خاصة بعد أن رفع النظام بالعلن 
شعار (تبعيث التعليم) الذي امتد تطبيقه إلى طلبة الدراسة المتوسطة!.
محمد عيسى ابراهيم، هذا هو اسم المواطن ورب الأسرة المستقلة المسالمة التي رفضوا قبول أبنائها، وتحت تلك الضغوط والمتاعب التي لاحقتهم ابتداء من الانتماء إلى الحزب والجيش الشعبي، مروراً بمشكلات الحرب والجبهة وتدريب الشعب الاجباري على السلاح، وصولاً إلى لقمة العيش، عزم الرجل على مغادرة وطنه بقلب يتشظى ألماً وحزناً، ولم يتسن له بيع داره، لذلك تولى تأجيره بمبلغ زهيد يعينه على مواجهة المجهول الذي ينتظره في الغربة، وعلى عادته حتى بعد أن أخذته بلدان الغربة شرقاً وغرباً، كان يحتفظ بقلم ودفتر صغير في جيبه، يدون فيه مشاهداته اليومية، ومع أن الرجل مكث مع أسرته سنوات طويلة بعيداً عن العراق، إلا إنه على وجه الخصوص وأسرته على وجه العموم كانوا يتحرقون شوقاً للعودة إلى بغدادهم وأصدقائهم وجيرانهم وذكرياتهم، وهاهي الفرصة تحين بعد (2003)، غير أنه لم يتسرع في العودة، وانتظر الزمن الكافي، ثم اتخذ قراره الحاسم، وهكذا احتضن العائدون دجلة وأرض الوطن بدموع  سخية.
كان محمد عيسى ابراهيم يرى ويسمع ويتابع ويدون، وقد لفت انتباهه قبل أي شيء آخر، أن أسيجة البيوت والمدارس ومؤسسات الدولة قد طفحت بالكتابات و (ألوان البوية والأصباغ )، دعايات انتخابية، شتائم متبادلة، اعلانات وعبارات غريبة على غرار (مطلوب عشائرياً)، مقاطع حب وغزل فاضح، إلى الحد الذي تداخلت الحروف والكلمات والجمل وأصبحت قراءتها 
مستحيلة..
في دفتر يومياته دوّن العبارة التالية (الديمقراطية في بلادي رائعة، لولا أنها تلوث الجدران)، ويوم رفض المستأجر إخلاء داره، ويوم سمع وشاهد حوادث الاختطاف والقتل على الهوية وكواتم الصوت، كتب في دفتر يومياته : الديمقراطية في العراق رائعة.. لولا إنها لوّثت النفوس!.