ما يمكن أن تقدّمه فنلندا لحلف الناتو
قضايا عربية ودولية
2022/04/21
+A
-A
اليزابيث براو
ترجمة: أنيس الصفار
في ملحمة «يوهان لودفيغ رونيبيرغ»: “أقاصيص الراية الحديديَّة”، وهي ملحمة فنلندا الوطنية عن حرب 1808- 1809 بين السويد (التي كانت فنلندا جزءاً منها في ذلك الحين) وروسيا، يأتي شاب تعس سيئ الحظ اسمه “سفين دوفا” إلى والده ليبلغه أنه حزم أمره على الالتحاق بالجيش. وشد ما كانت دهشة أبيه وكل من عرفه حين وجدوا دوفا يتقدم ليصبح من أشجع الجنود بحيث صار من المعتاد أن تضع فرقته اعتمادها عليه في أوقات احتدام المعارك.
اليوم تثبت فنلندا، التي تشترك مع روسيا بحدود طولها 800 ميل، بكل جموعها أنها ذلك الجندي الشجاع الذي يفتح له حلف الناتو ذراعيه مرحباً بانتظار تسلم طلبه للانتماء إلى الحلف. ففي هذا الأسبوع أعلنت رئيسة الوزراء “سانا مارين” أنَّ فنلندا سوف تحسم قرارها بشأن الانتماء في ظرف أسابيع.
هذا الإعلان كان منعطفاً ساخراً في تاريخ القرن العشرين. فبعد الحرب العالمية الثانية، وإذ أحبط تقدم الجيش الأحمر الجبار في “حرب الشتاء” 1939- 1940 ثم سعيه بعد ذلك لاستعادة الأراضي التي طالب بها السوفييت في نهاية المطاف، اضطرت فنلندا للاستقرار على وضع الحياد الذي فرضته موسكو. بيد أنها أدهشت الجميع تقريباً حين نجحت في هذه المهمة المذلّة أيضاً وتمكنت من بناء قوات مسلحة عالية القدرات بدعم حيوي من المجتمع المتمدن، مع التمكن في الوقت نفسه من الإبقاء على الحوار مفتوحاً مع موسكو.
هذا الترتيب، الذي كثيراً ما يصفه غير الفنلنديين بـ”الفنلدة” (وهي تسمية تضايق الفنلنديين أنفسهم)، بدا تسوية مقبولة من وجهة نظر موسكو. في هذه الأيام يبدو الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، المتوجس منذ وقت طويل من تطاول أشباح الناتو على حدوده الجنوبية الغربية، راغباً في التوصل إلى ترتيب مشابه مع أوكرانيا، بيد أنَّ عملياته الهجومية هناك حفزت على حدوث تحول دراماتيكي في هلسنكي حيث تبدي فنلندا اليوم استعداداً للتخلي عن حيادها المعروف دفعة واحدة وبالكامل، وهو تحرك من شأنه وضع قوات حقيقية تابعة لحلف الناتو على حدود روسيا الشمالية الغربية.
في 13 نيسان تلقى أعضاء البرلمان الفنلندي تقريراً عن الأمن القومي أطلق بينهم موجة مداولات بشأن ما اذا كان يتعين على فنلندا التقدم بطلب للعضوية في حلف الناتو. كثير من هؤلاء كانوا قد حزموا أمرهم بالفعل، فقد استجاب 112 عضواً من أصل عدد الأعضاء، البالغ 200 عضو لاستطلاع أجرته هيئة الإذاعة الفنلندية المسماة “يليسراديو” أو اختصاراً “واي أل إي”، قال 71 من هؤلاء إنهم يؤيدون طلب انضمام فنلندا للناتو ولم يرفض الفكرة سوى ستة. في اليوم نفسه أعلنت مارين من خلال مؤتمر صحفي عقدته في ستوكهولم مع رئيسة وزراء السويد “ماغدلينا أندرسون” أنَّ فنلندا سوف تتخذ قرارها “في غضون أسابيع” بشأن ما إذا كانت تنوي تقديم هذا الطلب.
خلال ذلك كانت الحكومات في عدد من عواصم تحالف الناتو قد أعطت إشارات تفيد بالترحيب بانضمام فنلندا إلى الحلف، إذ هل ثمة ما يعيب هذا المتقدم المحتمل للعضوية؟ ففنلندا دولة راسخة القدم في الديمقراطية ومؤهلاتها في الإدارة الرشيدة للدولة يشاد بها، علاوة على أنَّ الفنلنديين سوف يضيفون قدرات عسكرية مهمة، لاسيما في مجال الاستخبارات.شاعت التصريحات بشأن قيمة فنلندا لدى حلف الناتو إلى حد جعل من المسلم به أنَّ هلسنكي ستكون رصيداً له وزنه العسكري في الميزان بالنسبة للتحالف رغم أنَّ الناتو نفسه سيترتب عليه آنذاك الدفاع عن حدود طولها 800 ميل مع روسيا. لكن بعد كل الحماس الذي أبدته الدول الأعضاء في الناتو لاحتمال انضمام فنلندا إلى التحالف يبقى ما ستقدمه فنلندا في الميدان هو المهم.
يقول الأدميرال المتقاعد “يوهاني كاسكيالا” الذي شغل منصب وزير الدفاع الفنلندي حتى العام 2009: “كان أعظم رصيد لدينا نقدمه هو علمنا منذ أول أيام تطلعنا فيها إلى عضوية الناتو قبل عقود بأننا سيكون لنا دور في الحفاظ على أمن هذا الجزء من أوروبا. لقد كنا واثقين من أننا سنكون مساهمين فعليين في أمن أوروبا لا مجرد مستهلكين.”
كانت فنلندا حتى الآن تسهم بأمن أوروبا من خلال حراستها لحدودها مع روسيا، وحين تصبح عضواً في الناتو سوف تضع هذه القدرة العظيمة تحت تصرف الحلف. يقول كاسكيالا: “أعظم فائدة سنتمكن من تقديمها إلى الناتو في الواقع هي تولينا أمر الحدود مع روسيا. لا أقصد التفاخر هنا ولكن قدراتنا العسكرية يجب أن تؤخذ مأخذ الجد بلا شك.”
قد يبدو كاسكيالا مبالغاً في الظاهر، فالكوادر العاملة في قوات الدفاع الفنلندية متواضعة نسبياً لا يكاد يتجاوز تعدادها 12 ألف عنصر، كما أنَّ ما تنفقه فنلندا في جانب الدفاع لا يتجاوز 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولو أنَّ هذه الأرقام لا يدخل بضمنها حرس الحدود القوي في هذا البلد، كما أنَّ فنلندا خلافاً لكثير من الدول الأخرى لا تعد رواتب العسكريين المتقاعدين ضمن الإنفاق الدفاعي.
أهم من ذلك أنَّ القوات الرسمية البالغ تعدادها 12 ألفاً يضاف إليها المشمولون بالتجنيد الإلزامي، إذ إنَّ ثلاثة أرباع الرجال الفنلنديين تقريباً يؤدون الخدمة العسكرية. (يعفى من الخدمة العسكرية فقط الرجال المصابون بعلل بدنية أو عقلية تحول دون أدائها، وكذلك عدد صغير من الفنلنديين الذين يرفضون الحرب لأسباب مبدئية تتعلق بالضمير). بعد إكمال الخدمة الإلزامية يحال المجندون إلى قوات الاحتياط، باستثناء الذين ينخرطون في صفوف الخدمة العسكرية الفعلية.
يقول “ستيفان فورس” المحلل الفنلندي في شؤون الدفاع: “يبقى الجيش الفنلندي حالة استثنائية للغاية في أوروبا، فنحن ندرب أفواجاً كبيرة من المجندين كل عام، وما يتوقع منهم إتقانه هو التصدي الدفاعي لهجوم روسي كبير. كان هذا الواجب في صميم تدريبهم حتى خلال العقود القليلة الماضية عندما بدأت جميع الدول بالتحول فعلياً إلى نظام إدارة الأزمات باستخدام وحدات صغيرة الحجم. في كلية الدفاع لدينا لا يزال ضباط الأركان العامة يتلقون تدريبات تركز على قيادة الألوية والفيالق.”
أما بالنسبة للمجندين، وبفضل التدريب الذي شهد خلال الأعوام الأخيرة تحولاً كبيراً للارتقاء بالحوافز لدى الجنود، فإنَّ معظمهم صاروا يتقدمون طوعاً لأداء واجبهم تجاه أمن البلد بصفة جنود احتياط. في استطلاع للرأي أجري في شهر كانون الأول الماضي، وقبل تكشف نوايا روسيا بشأن غزو أوكرانيا، أيد 73 بالمئة من الفنلنديين الذين شاركوا في الاستطلاع الإبقاء على الخدمة العسكرية، في حين أيد 7 بالمئة الاعتماد على القوات المسلحة المحترفة كلياً. مثل هذه المشاركة المدنية في الأمن القومي، والدعم الشعبي الذي تحظى به، سوف تكون قوة ورصيداً لصالح حلف الناتو.
البراعة الأخرى التي ستقدمها فنلندا إلى التحالف أيضاً خبرتها وطول مراسها في مجال الاستخبارات العسكرية، وهي حصيلة ما تراكم عبر 105 أعوام من مراقبة وتفسير ما يجري ويدور في الدولة المجاورة الجبارة. وعندما طلب من اللواء المتقاعد “بيكّا توفيري”، الذي بقي مسؤولاً عن الاستخبارات العسكرية الفنلندية حتى العام 2020، أن يعدد أوجهاً أخرى للقوة الفنلندية قال: “يعد جيشنا كبيراً بالنسبة لبلد في مثل حجمنا، بمدفعيته الضخمة ودروعه القوية، لكن هذه القوة ليست مهيأة للانتشار بطبيعة الحال. بعض قطعات الجيش يمكننا استخدامها في المناطق القريبة من فنلندا، كما أثبتنا خلال تمرينات عدة للناتو.”
تجري فنلندا والسويد بانتظام تمارين مع النرويج جارتهما في حلف الناتو، وقد رفع هذا من إمكانية اندماج هاتين الدولتين اللاعضوين. يقول كاسكيالا: “لدينا قدرة ممتازة في مجال الاستطلاع الجوي ونحن نضع هذه القدرة في خدمة الناتو كلما طلب منا ذلك، مثلاً خلال تمارين الرد البارد في 2022.” وهي إشارة إلى تمرين مشترك جرى مؤخراً. يمضي كاسكيالا قائلاً: “هناك أيضاً تمارين تجري في أقصى الشمال على أساس أسبوعي تقريباً وهي تشمل فنلندا والسويد والنرويج، وفي كل مرة نقوم بوصل منظومتنا بمنظومتهم، لذا سيكون من السهل علينا القيام بذلك بشكل دائم.”
من بين أبرز السمات الأخرى التي تتميز بها فنلندا امتلاكها طائرات مقاتلة ممتازة وإجراؤها دورات تدريب في الدفاع الوطني. هذه الأخيرة من الأمور التي تعتز بها فنلندا أشد الاعتزاز، وهي دورات مصحوبة بالإقامة أمدها ثلاثة أسابيع يتلقى فيها المتميزون البارزون من شتى قطاعات المجتمع تعاليم في العقائد الأمنية للأمة. النتيجة من ذلك هي ظهور قادة في جميع المواقع الاجتماعية ملمون بشؤون الأمن القومي ولهم معرفة صميمية بعضهم ببعض. ففي خضم سعي البلدان لدرء الأنشطة المعادية يصبح لوجود مدراء شركات من أعلى المستويات يمتلكون الفهم والوعي بماهية الأمن القومي ودور مؤسساتهم فيه كل حسب تخصصها أهمية حاسمة لا غنى عنها. لنتخيل كيف كان “مارك زكربيرغ” سيغير وجهة نظره بشأن دور فيسبوك في المجتمع لو أتيح له أن يلتحق بمثل هذه الدورة، بل لنتخيل كيف كان سيمكن للدول الأعضاء في حلف الناتو إشراك القطاع الخاص في المساعدة على حفظ أمن بلدانها من خلال تفقيه المدراء البارزين بشؤون الأمن القومي.إذا ما قررت السويد أيضاً الانضمام إلى حلف الناتو فسوف تدخل إليه عناصر قوة إضافية من بينها بحرية قادرة على لعب دور حاسم في بحر البلطيق. البحرية السويدية في واقع الأمر ليست كبيرة بالمقياس النسبي وحده بل إنها تمتلك أيضاً خبرة في اصطياد الغواصات، وهذه الخبرة ستكون لها أهميتها وأثرها في خدمة الناتو. لكن إن تكن فنلندا قد بدأت للتو في رفع رأسها مستطلعة فإنَّ الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يحكمون السويد حالياً لا يزالون بعد في مرحلة الإعلان عن النية على إجراء “مراجعة للموقف الأمني”، ولو أنَّ من الواضح حتى بالنسبة للمشككين بحلف الناتو أنَّ من الحماقة بقاء السويد خارج الحلف بمفردها.في”أقاصيص الراية الحديدية” توكل إلى دوفا مهمة من جنس عمليات الكاميكاز الانتحارية تتمثل بالدفاع عن جسر بوجه تقدم الروس، ويتصدى دوفا للمهمة بكل شجاعة. كتب رونيبيرغ: “سرعان ما وجد العدو أنَّ هجومه قد تعثر ولم يلبث الجنود الروس أن داروا على أعقابهم ببطء وانسحبوا.”إذ تدنو فنلندا من بوابة الناتو يبرز السؤال الواضح: هل من المتوقع أن يدعم مواطنوها بسالة قواتها المسلحة، لا في الداخل فقط بل في دول بعيدة أخرى أعضاء في الحلف أيضاً؟ هذا هو السؤال الذي سيحاول برلمانيو البلد الإجابة عنه. أما في المستقبل القريب، وحتى غير القريب تماماً، يرجح أن تندلع الأزمات على حدودها مباشرة وفي طرقاتها وفوق جسورها. فنلندا بحاجة إلى الناتو.. والناتو في الوقت نفسه محتاج إلى فنلندا.
*عن مجلة “فورن بولسي”