علاء هاشم
التصوف تجربة روحية ذوقية لا تُنال بالتطبّع ولا بالتكلّف، ونزعة إنسانية عميقة تنشد التحرر والخلاص والتطهير الروحي، من خلال جدلية قائمة بين الواقع والتأويل اللانهائي له، حيث يمثل حالة من الإصغاء إلى الصوت الداخلي في الانسان، وعبوراً إلى الحقيقة التي لا يمكن أن يراها على السطح، في زمن أنهكته الحروب والفظائع التي ترتكب بعناوين الأديان والقداسة، فتغدو العودة إلى التصوف بتجلياته المختلفة تلبيةً لحاجة ملحّة في البقاء تحت راية روحانية، قد تروي ظمأ المجتمعات المعاصرة. ويظهر هذا واضحاً في انتشار أعمال أدبية مفعمة بالروحانية والتصوّف مثل روايات باولو كويللو وأوشو وإليف
شافاق.
إنَّ النزعة الإنسانية في التصوّف تظهر في كثير من عبارات المتصوفة ومخاطباتهم التي تحمل معاني لا يُدرَك الكثير منها إلا بالتحليل والتعمق، وتبدو في أغلب الأوقات بعيدة على العامة في فهمها لأنها لغة شديدة الخصوصية، وأقرب إلى خصائص لغة الشعر التي تتجه إلى مخاطبة الوجدان والعواطف لا الإدراك والتفكير الجامد، وصولاً إلى تحرير المعنى من قيود السياقات المألوفة، وتخليص الكلمات من طاقات التسمية والتعيين؛ فما يعيشه الصوفي في اللغة وفي الطقوس وفي تفاصيل حياته، لا يمكن أن يكون سوى سبيل نحو الانغماس في حالات استيهام تستوعب كلَّ حالاته. بالإضافة إلى ذلك فإنَّ لغته توسع من ذاكرة الكون، عبر خلق عوالم جديدة، حيث يصبح القول استحضارا لذاتيَّة الذي يتكلم واستثارة لذاكرة الكلمات في الوقت
ذاته.
وبعكس الصرامة المنهجية والجفاف الفقهي، فإنّ خطاب المرأة في الدائرة الصوفية يتحلى بمنسوب فائق من الحيوية، ويفتح أبوابه على حداثة إنسانية مفترضة، يقابله إلى حدّ بعيد كنزٌ من التأويل يرى إلى المرأة مرتكزاً، باعتبارها كائناً رئيساً لا هامشاً في مركزية الإله المفارق، وذلك لكون الخطاب الصوفي لا يستمد رؤيته من هاجس السلطة وتطلعاتها، كما نلحظ ذلك في منظومة الفقه الكلاسيكي، بل من راهنية العزلة والانقطاع، تلك العزلة التي تكسّر كلّ مجالات وأصنام السلطة، ذكورية/ أبوية/ قبلية، وتؤدي بالنتيجة إلى إنتاج الخطاب الذي يكون في الغالب مهجوسا بالكائن الإنساني، كرتبة مركزية، ترفع الجمال البشري بدلالاته واستثماراته العميقة. فالصوفي هو كائن يستمدّ حداثته الدائمة من كونه فاعلاً حراً في الدائرة الجمالية الكونية. إنَّه الكائن ذو الرتبة التي تستوي فيها المرأة مع الرجل في مركزية الخلق مقابل الحقّ، وقد تكون المرأة إماماً في هكذا نسق، يندرج بإمامتها الروحيّة أعلامٌ من
الرجال. التصوف الإسلامي هو أحد السبل المهمة لمواجهة سائر أشكال التطرف الديني، والمدخل لتحقيق التسامح بين الأديان، ونبذ التعصب الديني الذي يعكس كراهية الآخر المختلف في العقيدة، ولعله يسهم كثيراً في تغيير الصورة السائدة عن الإسلام في الغرب باعتباره دين العنف، دينا كئيبا عبوسا يقوم على سلطة الزجر والعقاب والعنف
الدموي. ورغم ما يمثله التصوف الإسلامي كظاهرة عميقة وممتدة ومتعددة المظاهر والتجليات في تاريخنا وواقعنا الاجتماعي والحضاري، لكننا مع ذلك لا نراها تحتل مكانتها الطبيعية في سلم أولويات البحث العلمي والجهد الثقافي، لتنتهي هذه الظاهرة واقعياً وتصبح مرحلة تاريخية، نظرأ لأنَّ الخطاب السائد ينأى بنفسه بعيداً عما أسماه البعض خطاباً “أسطورياً عجائبياً”، وينبذ الطاقات الهائلة التي تكمن في هذا المجال الحيوي
المهم.