اللعبُ بالبيضةِ والحجر

العراق 2022/04/23
...

أحمد عبد الحسين
 
حاجتنا إلى قراءة "يورغن هابرماس" أكيدة.
قلّما وجد فيلسوف مثله تواشج لديه الشأنُ السياسيّ بالهمّ الاجتماعيّ، بحيث يبدو عالمَ اجتماعٍ مسكوناً بما هو سياسيّ مطلّاً على بحثه من شرفة فلسفية. كما أنه عاصر مشكلات ما بعد الحربين في أوروبا التي تلتقي في كثير من وجوهها مع مشكلاتنا نحن، وبخاصة في ما يتعلق بشكل نظام الحكم وقضايا الدين والعلمنة.
اجترح هابرماس مصطلح "أزمة الشرعية" سنة 1973 ليصبح من أكثر المصطلحات شيوعاً في الدرس السياسيّ اليوم. كان يريد به "إدارياً" انهيار الثقة بمؤسسات الدولة الناجم عن عدم قدرتها على إنشاء هياكل فاعلة لتحقيق أهدافها؛ و"سياسياً" توقّفُ الجهد السياسيّ عن إنتاج محركاتٍ للعمل مقبولة مجتمعياً.
وعلى هدي هابرماس، نحنُ في خضمّ أزمة مزدوجة اذن. فمن جهةٍ نشهد انعدامَ ثقة تاماً بين العموم ومؤسسات الدولة بسبب ارتكاز عملها على كلّ ما هو غير قانونيّ من فساد واستهانة بالقانون، وبسبب توسّلها في كثير من الأحيان بعناصر ما قبل الدولة، كالطائفة والعشيرة. ومن جهة أخرى نلحظ منذ الانتخابات الأخيرة شللاً سياسياً بحيث يبدو كلّ حراك غير منتجٍ وغير قادر على ابتكار حلول.
يعاني السياسيون عندنا من فقر دمٍ في الخيال، فتراهم يغلب عليهم مبدأ "الاستصحاب" أي الاطمئنان إلى الحلول القديمة التي كانت ناجحة يوماً ما كالتحشيد الطائفيّ الذي كان مفيداً للغاية لهم، وإيصال الأزمة إلى حدود الكارثة لإخافة غرمائهم، وهي وصفة لا يُكتب لها النجاح دائماً، فجميعنا يتذكر أن خيوط اللعبة أفلتتْ من أيدي اللاعبين سنة 2014 وضاع ثلث البلاد بسبب سوء التقدير وغياب الحنكة وضعف الخيال!
رهاناتُ الحاضر تستلزم حلولاً جديدة غير إخافة الناس بالطائفية، وغير تقديم رموز التشدّد وأرباب الخطاب المتشنّج من جديد وتمكينهم لإثارة الفزع والفوضى والوصول إلى حدود الاحتراب الذي يريدونه مقدمة لانفراج أزماتهم.
يريدون أزمة لخلق شرعيّة مفقودة، أيْ أنهم يتوسلون بشرعية الأزمة للقضاء على أزمة الشرعية. وهو أمر لا أظنّ أن له سوقاً رائجة كالسابق. هذه الألاعيب القديمة تفترض جمهوراً قديماً مستعداً لإبداء حماس منقطع النظير إزاء كلّ نغمة طائفية وعند سماع صوت سحب الأقسام!
والحال أن الجمهور تغيّر. الجيلُ الجديد يعرف أسرار الحواة وفنون الخفة والخدع البصرية واللعب بالبيضة والحجر.