علي حمود الحسن
فيلم "بلفاست" (2021) أخرجه الإيرلندي البريطاني كينيث برناه، وفاز بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي، مخيباً الآمال في توقعات رشحته لسبع أُخر، السيناريو الذي كتبه برناه في بيته أثناء الحجر الصحي، إثر تداعيات الانتشار المروع لوباء كورونا، ضاج بالحنين لطفولته السعيدة في "بلفاست" أواسط الستينيات، أليس بيت الطفولة "هو الوطن الأول" بمفهومية سانت اكزوبري؟، ربما هذا يفسر أن الأحداث تروى بعين طفل، قبل أن تتفجر الصراعات المذهبية بين البروتسانت والأقلية الكاثوليكية، لتحول أحياء المدينة المتآخية إلى جحيم، إذ شن المتطرفون الهجمات العنيفة على السكان الآمنين، فأشعلوا الحرائق ودمروا الممتلكات، ما اضطرهم إلى الرحيل، الفيلم ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية، ويمس شغاف القلوب، خصوصاً لمن عاش تجربة الفرز الطائفي..
تدور أحداث الفيلم الذي صوره المخرج بالأبيض والأسود، عدا مشاهد الأفلام الملونة التي ظهرت في صالة السينما، حول يوميات الفتى بادي(جود هيل) الذي يفيض حيوية ومرحاً وينتمي إلى أسرة عمالية بروتسانتية تسكن في حي مختلط متآخٍ من البروتسانت والكاثوليك، يعيش أيام طفولته بكل استحقاقاتها، بدءاً من كنف والدين وجدين حانيين، مروراً بهوسه بألعاب الطفولة التي يستمدها من أفلام شاهدها في السينما التي يحبها، وانتهاءً بأيامه الدراسية السعيدة وقصة حبه لآنسة فاتنة في صفه الدراسي، هذه الأجواء الفردوسية التي نتفاعل مع بطلها الصغير، تتحول إلى جحيم باندلاع أعمال عنف مذهبية وربما قومية سياسية، فتشعل الحرائق ويتهشم زجاج البيوت الآمنة وتنصب الكمائن وتشيد الحواجز، والأطفال لا يفهمون ذلك، لكنهم يقرؤون الخوف والرعب بوجوه الآباء، فعلى مدار الزمن الفيلمي نتابع بخوف وقلق محاولة أسرة للصمود بوجه حملة التطهير، خصوصاً أنها بروتسانتية لم تسهم في عمليات التطهير، فتتعرض للتهديد والعزل إلى أن تقرر الرحيل، على الرغم من كسر قلوب أولادها، قدم برناه وفريق عمله، فيلماً أدان التعصب والتمذهب والصراعات العرقية، من دون الإشارة إلى جذر سياسي ومذهبي بالمعنى المباشر، من هنا تبرز قيمة الفيلم وحيويته، فنحن على مدار 90 دقيقة نتابع مكابدات ومعاناة أسرة تجبرها الظروف على مغادرة وطنها وجذورها، ما جعلها خفيفة الوطأة ومقبولة، لأنها تصدر من وجهة نظر فتى بعمر الحادية عشرة، فنحن لا نشاهد أحداثاً وثائقية، إنما أحداث هي أقرب للحلم الكابوسي، ويرجع ذلك إلى المعالجة الخلاقة والمبتكرة لصاحب "الكل صحيح" التي اعتمدت صنع كادرات بزوايا خاصة وتوظيف تقنيات الأسود والأبيض الضاجة بالحنين للماضي، فضلاً عن إدارته للممثلين الذين قدموا اداءً معتبراً، خصوصاً "جود هيل" بدور الطفل بادي، والجدين الحكيمين، جودي دينش بدور الجدة كراني المرحة والحانية، وبوب جسده باسترخاء وتمكن كيران هايندز.