باتت مشكلات المجتمعات الدينية أكثر من أن تحصى في مقال، بل تحول بعضها إلى معضلات حقيقية قد تحتاج إلى عشرات السنين لتفكيكها وحلحلة تعقيداتها. ولو تطوعنا تصوراً في حل تلك المشكلات الكثيرة فلا يمكن أن نتصور ذلك إلّا من خلال تدخل الدولة الحديثة المدنية.
ذلك المفهوم (الدولة المدنية) الذي غاب في الأدبيات الدينية تماماً.
إذ انشغل الفكر الديني للفرد الشرقي المتدين في شرعية الدولة وعدم شرعيتها (دينياً)، بيد أن الأمر لا يمكن أن يختزل بهذه الثنائية المتقابلة.
فالدولة المدنية والدولة الدينية تعتمد بالأساس على نظرة الفرد إليها وكيفية تعاطيه معها سلبا او ايجابا، ولما كان هذا الفرد هو نتاج التربية الأسرية وإمام المسجد والإعلامي وأستاذ المدرسة، وكل أولئك نتاج الأدبيات الدينية الشرعية ولهم تخيّلات عن الدولة الأنموذجية الطوباوية، مع أن هذه التصورات وهذا المخيال جاء من (وصف الواقع التاريخي لما يجب أن تكون عليه الدولة الإسلامية الأنموذجية)، ولم يأتِ عن نفس واقع الدولة الإسلامية آنذاك.
فعندئذٍ نستطيع أن ندرك طبيعة تصورات الفرد (المسلم) على سبيل المثال وكيف عاش تجربة الدولة خلال تاريخه الطويل، وكيف كان يفكر سياسيا ويتعاطى مع تلك الدول التي يعيش فيها.
إنَّ الانفكاك من أي سردية محكمة متشعبة مكللة بالقداسة وتصف أتباعها بالشرف وكونهم النخبة المختارة من بين بقية الأفراد والمجتمعات البشرية بنوع من التمييز والأفضلية، يحتاج إلى وعي وحرية ذاتية كبيرة جدا لتحقيق ذلك الانفكاك والانفصال، كما أن أي نقد لتلك المنظومة الدينية قد يعطي نتائج عكسية تماماً في ما لو تناول ذلك النقد تشريعات أو رموزا أو عقائد أو طقوسا أو نصوصا مقدّسة.
فما علينا في مثل هذه المحاولات إلّا أن نكون على أعلى مستوى الجدية والحذر معاً ونحن نلقي الضوء على هذا الواقع الذي تعيشه تلك المجتمعات.
أما المسؤولية الأكبر في التصدي لهذه التصورات الذهنية (للدولة الأنموذجية التي في مخيال الفرد والمجتمع المتدين المسلم بحسب المثال)، فهي تقع على عاتق الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها الإعلامية والتربوية في المدارس والجامعات والإعلام في بث ونشر ثقافة مغايرة لما عليها ثقافة المجتمع اليوم.
فالإيمان بالدولة المدنية العلمانية المحايدة لجميع الأديان والمذاهب والقوميات والتيارات الفكرية والسياسية، وبما يتناسب مع خصوصيات تلك المجتمعات الثقافية والمنظومة الأخلاقية الحاكمة فيها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كي لا يقع المجتمع في نهاية الأمر في صراعاتٍ تُحشَدُ فيها التحشيدات العاطفية غير العلمية والاستفزاز الذي سينتهي للصِدام العنيف بلا أدنى شك. فقد يجري الإرهاب على رأي أو ذوق أو ممارسة أو فن من الفنون بحجة الخروج عن الدين السائد أو التقاليد القبلية المتعارفة، وقد ينتهي بالقتل والفتنة المجتمعية الكبيرة، خصوصا في بلد مثل العراق حيث لا احتكار فيه للعنف من قبل الدولة كما لا اختصاص لها في الإعلام ولا يمكن لها ضبطه حالياً.
ومما تجدر الإشارة إليه ونحن في ختام هذا المقال، الحديث عن الهوية، هذه الهوية التي تعني أولوية الشعور بالانتماء إلى جهة ما أن صح هذا التعريف.
فنحن لا يسعنا إنكار هويات متعددة للفرد والمجتمع كالهوية الدينية والقبلية والوطنية وحتى الحزبية أحياناً، ولكن ما نريد أن نركز عليه في هذه العجالة هو منشأ اختيار الهوية وترجيحها على باقي الهويات من قبل ذلك الفرد في حالة تزاحم هذه الهويات، وأي من تلك الهويات تتربّع عرش الصدارة وينطلق منها في تحديد المواقف التي يمر بها الفرد او تمر بها الدولة او
المجتمع؟.
ونحن لا نتطرّف في القول إذا قلنا إنَّ الهوية الوطنية تتعارض بالضرورة مع الهوية الدينية إذا كانت هي المقدمة في عقلية المتدين وشعوره وقرارة نفسه، فمن طبيعة الأديان تمييز أفرادها وتقديمهم على باقي الأفراد من أصحاب الديانات الأخرى أو على من لا يعتقد بدين من الأساس والذين يشكلون ذلك المجتمع في نهاية المطاف، وهي بهذا تتجاوز حدود الوطن لتلتقي مع أفراد وجماعات في دول أخرى تجمعهم الايديولوجية والدين والأفكار نفسها.
فلا يستقيم عندهم مفهوم الدولة الوطنية المستقلة ولا مفهوم المواطنة (المواطنة مفهوم من مفاهيم الدولة الحديثة)، ولا يمكن أن يقدم المواطن الايزدي مثلا على المسلم في باقي دول العالم.
إنَّ هذا التقديم والأولوية التي ينزع إليها الفرد الديني وتجاوزه للهوية الوطنية أو القبلية أو أي هوية أخرى هو نتاج النصوص والأدبيات الدينية التي جعلت منه ومن جماعته عصبة إلهيَّة هي الأفضل والأقرب لله الذي خلق الخلق كله وانتخبهم من بينهم. فلا يبلغ ذلك المجد وعالم السماء ويوم الدينونة إلّا هم، ولا فرقة ناجية من بين كل الفرق المختلفة إلا هم.
وهنا نؤكد على أن التعارض الذي ادّعيناه بين تقديم الهوية الوطنية وتقديم الهوية الدينية هو حاصل في حالة المزاحمة في تقدم أحدهما على الأخرى.
وعلى الدولة أن تتحمّل مسؤولية تنمية الروح الوطنية وبلورة القوانين التي تفضي إلى ذلك واستعمال مؤسساتها التربوية والإعلامية ورصد الأموال لتلك المهمة النبيلة التي تخدم المجتمع بشكل عام وتجعل من أفراده مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات على حسب معايير الدولة العلمانية التي تكون على مسافة واحدة من جميع أفرادها وتطبق القوانين بتلك المنهجية نفسها على جميع الأفراد من دون أن تتبنى ديناً معيناً أو مذهباً أو قومية أو حتى حزباً سياسياً، فالدولة المدنية الحديثة
للجميع.