أكاديميون: جامعات تكتظ بالموظفين من دون إنتاج ثقافي

ريبورتاج 2022/05/07
...

   صفاء ذياب
لم تكن جامعة بغداد التي أسست في العام 1924، وبعدها الجامعة المستنصرية 1963 وجامعتا البصرة والموصل 1967، قاعات للدرس والحصول على الشهادات الأكاديمية فحسب، بل إن هذه الجامعات منذ بداياتها بنيت على أسس ثقافية تعنى بالثقافة الأكاديمية من جهة، وبتوجيه ثقافة المجتمع من جهة أخرى، فتخرج فيها آباء الثقافة العراقية، ومن ثمَّ كانت منبعاً للدرس النقدي والمنهجي والعلمي.
وبنظرة سريعة، تمثل الجامعات في العالم منجماً للنظريات على مستويين: النظري والعملي، النظري حين يؤسس الأساتذة لمفاهيم جديدة يمكن أن تغيّر من وجهة النظر العلمية، والعملي هو كيفية تأثير هذه النظريات في المجتمع، وفي الوقت الذي كان الأستاذ الأكاديمي نموذجاً للمثقف المؤثّر في المجتمع العراقي، تحوّل منذ تسعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى المرحلة التي نعيشها الآن، لموظف بعيد عن الهم الثقافي والبحث عن توعية طلبته أولا، والمجتمع في مرحلة تالية، فما الأسباب التي أدت لهذا الانهيار العلمي؟
 
عقد ربحي
يشير الدكتور ضياء الثامري من جامعة البصرة، إلى أن الجامعة هي الدرجة الأعلى في سلّم التعليم، وهي المكان الذي نضجت فيه أغلب نظريات العلوم والمعارف، فهي بهذا التصوّر ليست قاعة درس فقط، وإنّما هي حقل لبناء الإنسان في شتى المجالات الحياتية والعلمية، وبالتأكيد لا يستطيع النهوض بهذه المهمة إلا من امتلك قدرات ذهنية ومعرفية رفيعة، ولأنَّ الجامعة هي مختبر دراسة التجربة البشرية لابدَّ أن يكون مصداق وجودها هو تأثيرها في صناعة تلك التجارب وتوجيهها إلى الاتجاه الصحيح، غير أنَّ العمل في الجامعة عندنا صار خارج هذا التصوّر لأسباب كثيرة لعلَّ أهمها سياسات الانتماء للعمل الجامعي، وقبلها سياسات التأهيل التي يعتقد المشرّعون أنَّها محصورة في المؤهّل العلمي بصفته الرسمية وعدم النظر إلى الصفة الإنجازية، وهذا الأمر حوّل أغلب العاملين إلى آلات لضخ المعرفة الصرفة، (آلات) لأنَّ من هذه صفته لن يكون قادراً على الخروج بالمعرفة إلى بعدها الإنساني أو الحياتي.
أما في الجانب الثقافي فيعتقد الثامري أنَّ الثقافة بحاجة إلى وعي أعلى لا يمكن تحصيله أكاديمياً، فجامعاتنا تكتظ بالموظفين الذين يكتفون عند حدود إملاء المادة المعرفية، لأنَّ الأمر في نظر الكثير هو مجرّد وظيفة تدر وجاهة ومورداً، أو أنَّ عدداً كبيراً تسللوا إلى هذه الوظيفة، وقبلها إلى الحصول على المؤهّل بحثاً عن الوجاهة والمقابل المادي، أما الهم الثقافي والتأثير في حركة الثقافة، أو الانتماء إلى المجتمع من خلال التخصص فهذا أمر لا يدخل في الحساب لأنّه لا يحقّق الهدف، في المقابل نجد تسابقاً محموماً على المحاضرات الإضافية وكل ما يحقق الكسب المادي فقط، فالعمل في الجامعة من هذه الوجهة هو عقد ربحي وليس عقداً إنجازياً في المعرفة المؤسسة.
 
اللاجدوى
ويرى الدكتور عبد العظيم السلطاني، من جامعة بابل، أن هنالك سبباً يتعلّق بمؤهّلات الأستاذ الجامعي، وهو تمكين نسبة غير قليلة من حملة الشهادات العليا ليكونوا تدريسيين في الجامعة وهم لا يمتلكون ما يكفي من تأهيل ثقافي وليس لديهم رؤية ثقافية أو أحلام تتعلّق بمشروع معرفي له أبعاد ثقافية، إذ يتجاوز فكرة الوظيفة والراتب، فالواحد من هؤلاء جاء بالأساس ليكون موظفاً له راتب، وأسهمت في تكثير هذه العيّنة تعيينات ورقية عشوائية أحياناً بالجملة، والجامعة بالنتيجة إناء ينضح بما فيه.
مضيفاً: ومن الأسباب تخوّف الأستاذ الجامعي من التصدّي للفعل الثقافي وإن كان مثقّفاً، لأنّ الفعل الثقافي مرتبط دائماً برؤية ثقافية معيّنة قد تكون مصدر خطر على صاحبها، في ظل واقع ضعف فيه تطبيق القانون الحامي للأفراد وآرائهم، والأستاذ الجامعي بوصفه أستاذاً هو خاصرة رخوة ومكشوفة، يعجز عن حماية نفسه، لذا قد يُؤثِر السلامة ويوصد الباب، والأمر نفسه ينطبق على الجامعة المؤسسة المدنية المكشوفة.
وهنالك سبب يتعلّق بطبيعة العصر الراهن، إذ حصلت فيه تحوّلات هائلة تخلّت فيها الجامعة والأستاذ الجامعي- قسراً- عن مساحات من المسؤوليات الثقافية لصالح جهات أخرى كوسائل التواصل الاجتماعي، وبسبب فاعلية تلك الوسائل وجاذبيتها وشيوع ثقافة التسطيح، تولّد لدى الأستاذ الجامعي إحساس باللاجدوى من الفعل الثقافي، وصار يشعر بأنّه يُخاطب من لا يسمع.
 
فترة مظلمة
ويبين الدكتور عبد الحكيم الكعبي من جامعة البصرة، أن هذا السؤال بحد ذاته يحيلنا إلى إشكالية أكبر، وهي أين هو دور الجامعة في المجتمع؟ فالجامعة عندنا تعمل وكأنها كيان منفصل عن محيطها، متقوقعة على ذاتها غير عابئة بما يجري في الواقع، وهذا بحدِّ ذاته يتقاطع مع مبرّرات وجودها تاريخياً، الذي يفترض ألا يقتصر على الجانب الأكاديمي، ومقرّرات التدريس العلمي، فهناك أدوار أخرى مهمّة للجامعة منها الثقافة وتكريسها لدى الطلبة وفي المجتمع، وهذه من أولويّات المهام التي تضطلع بها الجامعات في دول العالم، من خلال إعداد الطلبة ثقافياً، بما يُسهم في تطوير المجتمع والدولة، وإلى زمن قريب في العراق كان الأكاديميون هم روّاد الثقافة والمجتمع من دون منازع.
أمَّا عن انحسار دور الأستاذ الجامعي في الواقع الثقافي، وغياب دوره التوجيهي والعلمي المؤثّر في المجتمع، فهذا جزء من حالة التشوّه العام الذي أصاب الواقع العراقي على مدى عقدين أو ثلاثة عقود مضت، بدأت مع هيمنة الفكر الواحد والحصار ثم تفاقمت مع الاحتلال وانحلال الدولة وتعاظم الفساد، وهو تراجع حقيقي ومخيف، على مختلف الصعد العلمية والثقافية والقيمية والأخلاقية وحتى الدينية، هي مرحلة تستحق أن توصف دون تردّد، (بالفترة المظلمة الثانية) في تاريخ العراق الحديث، وحالة الأستاذ الجامعي جزء منها.
ومما يدعو إلى الأسف هو المستوى العلمي والثقافي المتدني لبعض من استطاعوا الحصول على وظيفة (أستاذ جامعي) دون توافر المقوّمات الأساسية فيهم لهذه المهمة، وأصبحت وسيلة للتوحّد مع النظم السياسية الحاكمة بهدف الحصول على الامتيازات التي توفّرها تلك الأنظمة للموالين لها، أنظر مثلاً مستوى الرسائل الجامعية وموضوعاتها في أقسام الدراسات الإنسانية، لاسيما وهي تؤشّر حالة الهزال والضعف على مستوى الطالب والمشرف معاً، إذ يطغى عليها طابع النفاق السياسي والاجتماعي، ومغازلة الجو السائد، على حساب العلمية والنقد والتحليل.
 
سلبيات السياسة
من جانبه يوضّح الدكتور علي حسين يوسف، من جامعة كربلاء، أنّه لا شك أنَّ للانتقالات التاريخيّة المفاجئة التي يمر بها أي مجتمع دوراً كبيراً في تغيّر أنماط السلوك الثقافيّة والرؤى المجتمعيّة، فالثقافة لاسيما في بلد تتقاسمه الانتماءات وينعدم فيه البناء المؤسساتي الثابت مثل العراق تعد انعكاساً للواقع السياسيّ والاجتماعيّ، فتارة نجد أنَّ الظرف ملائم فتنعم الأفكار بشيء من الحريّة المحدودة وينعم فيه المثقفون بمناخ ملائم للتفكير ينسجم والمرحلة التاريخيّة، كما حصل في ستينيات القرن الفائت وقد يحصل العكس في حال انعدمت الظروف الملائمة لاستمرار الفعل الثقافي وهذا ما حصل في زمن الحصار والحرب وبعد 2003، فقد انعكس الاضطراب السياسي بوضوح ليس على الوضع الأمني فحسب، بل على الحالة الثقافيّة في البلد برغم الكم الكبير من النتاج الثقافي بعد 2003، لكنّه ظلّ كمَّاً نخبوياً لم يمسّ الواقع كثيراً, ولنا في المخرجات الجامعيّة خير شاهد حتى أنّنا لا نبالغ بالقول إن قلنا إنَّ سلبيّات السياسة مثل عدم الشعور بالمسؤولية وضعف الانتماء وغياب مبدأ القدوة واللامبالاة في العمل والانفتاح المفاجئ واللامدروس على عالم الانترنت انعكست بصورة جليّة على مستوى الأداء الجامعي وبذلك ضعفت الرّصانة العلميّة كثيراً ولم تعد الشّهادة الجامعيّة ولا الخريج الجامعي كما كانوا من قبل على المستويين المعرفي أو المهني.
مراحل الانهيار
ويحدّد الدكتور محمد كريم الساعدي من جامعة ميسان، الأسباب التي أوصلت الأكاديمية إلى ما هي عليه، مثل: إنَّ القوانين الموضوعة ولاسيّما بعد 2003 جعلت من الأستاذ يقع في دائرة البلادة التعليمية من كون ما فرض عليه من قبل وزارته وجامعته قرارات لا يمكن معها الإبداع ومنها عملية النجاح الملزم للطالب والدرجات المضافة من قبل الوزارة التي جعلت الأستاذ لا يكترث للدرس الأكاديمي. 
فضلاً عن سهولة الحصول على الشهادة الأكاديمية (ماجستير ودكتوراه) في المؤسسات والجامعات وذلك كون من يحصل عليها لا يواجه في حياته الدراسية مقرّرات ومناهج سليمة أو طرائق تدريس حقيقية وكذلك لأنَّ الكثير ممن حصلوا على الشهادة قد كتبت لهم من خلال مكاتب.
إضافة إلى أن أغلب المناقشات العلمية للماجستير والدكتوراه هي شكلية والحصول على الامتياز أصبح بسهولة في أغلب الاختصاصات العلمية وهذا ما يجعل من حصل على الشهادة بهذا الأسلوب يستسهل التدريس ولا يقدّم شيئاً من الثقافة.
وأيضاً إن الكثير من الباحثين الذين قبلوا في الدراسات العليا وأصبحوا تدريسيين كانت معدلاتهم متدنية، وكان قبولهم بسبب القنوات الكثيرة التي تبعد الجيد وتقرّب الكسول وهذا ما ينتج تدريسياً قليل الكفاءة ولا يستطيع تقديم درس حقيقي للطالب.
ولا ننسى أثر التعليم الأهلي ونوعية التدريس فيه على مخرجات الدراسات العليا، إذ يتخرّج الطالب بمعدلات عالية من دون تدريس حقيقي ما يجعل خريج الكليات الأهلية ينافس الطالب الجيد من الكليات الحكومية في الحصول على مقعد دراسي، ما ينتج تدريسياً فاقداً لصلاحية التدريس ونشر الثقافة.
وإن قانون معادلة الشهادات أضاف كمَّاً هائلاً من التدريسيين الذين حصلوا على شهادات من خارج العراق بطرق مختلفة وغير سليمة وهذا ما جعل العديد من الشهادات تقع في دائرة النقد.
 وكل هذه الأسباب وغيرها جعلت من الأستاذ الجيد يقع في دائرة اليأس وبدأ يتعامل مع الدرس الأكاديمي والثقافة من وراء هذا الدرس بطريقة اللامبالاة وأصبح الأستاذ الحقيقي أكثر إحباطاً في الظرف الحالي.