حياة مشاهير العالم الافتراضي

الصفحة الاخيرة 2022/05/08
...

 عفاف مطر
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي طفرة في تذويب الحدود بين الحياة العامة والحياة الخاصة للجميع؛ للأفراد العاديين وللمشاهير في جميع المجالات (التمثيل، الغناء، الفن التشكيلي، تصميم الأزياء، الكتاب، الطهاة، الإعلاميين.. الخ) وبدلا من أن تكون نتائج العمل الفني الشهرة، صارت الشهرة أولا يعقبها العمل في المجال الفني.
 
مشاهير السوشال ميديا تأتيهم العروض للتمثيل أو الغناء بعد أنْ كونوا قاعدة جماهيريَّة مكنتهم من لفت انتباه المنتجين. لم يعد مستغرباً أنْ نعرف تفاصيل حياة أشخاص لا نعرفهم ولا تربطنا بهم أي علاقة وقد يعيشون في أماكن بعيدة وتفصلنا عنهم بحار ومساحات شاسعة. نعرف أماكنهم المفضلة ومن أين يتسوقون ومواعيد نومهم ومجال عملهم وأسماء أصحابهم وأقربائهم وكلابهم وقططهم، بل ونعرف خصوصياتهم التي لا ينبغي لأحد أنْ يعرف عنها كخلافاتهم العائليَّة وألوان وديكور غرف نومهم.
ظهرت هذه الحالة جنباً الى جنب مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بالتزامن مع تقنيَّة التصوير العالية التي أصبحت متاحة للجميع.
يعدُّ استلاب الخصوصيَّة والهدوء أخطر منزلق لحياة هؤلاء المشاهير. فحياة المشهور ليست ملكاً له لوحده بل يتشاركها الناس من شخصٍ لآخر ومن موقعٍ لآخر ومتاح للجميع إبداء رأيه وحتى التنمر عليه وتقييم حياته واختياراته، ما دفع بعض هؤلاء المشاهير لإعادة تصميم حياته حسب ما (يطلبه الجمهور) حتى لا يخسر متابعتهم، ذلك أنهم رأس ماله الوحيد.
من أسوأ ما يعيشه المشهور أنَّ عليه البقاء دائماً تحت مرأى الجمهور، عليه أنْ ينشر ويشارك يومياته بصورة دائمة بغض النظر عن حالته النفسيَّة والجسديَّة، ذلك أنه إذ ما اختفى ليومٍ أو لبضعة أيام سرعان ما يجد جمهوره مشهوراً بدلاً منه لينشغلوا فيه، لدرجة أنَّ بعض المشاهير الذين يختفون ليومٍ أو يومين فقط يعودون معتذرين عن اختفائهم، ويعدونهم أنَّ هذا الغياب لن يتكرر مرة ثانية.
تشارلي ماكدونيل أحد أشهر اليوتيوبر في العالم يقول لصحيفة الجارديان إنَّه غاب لبضعة أيام فسرعان ما وصلت إليه رسائل تسأله عن سرّ الغياب وكأنه أمرٌ جللٌ، حتى أنَّ أحد متابعيه سأله: هل أنت ميت؟ قد يبدو الأمر مضحكاً، لكنْ في العمق ليس من العدل المساواة بين المحتوى اليومي الذي يعرضه المشهور وبين حياته الواقعيَّة والماديَّة.
يؤكد تشارلي ماكدونيل أنه يرتعب لفكرة أنْ يغيب عن السويشال ميديا لأخذ فترة استراحة؛ لأنَّ أرقام عدد المشاهدات والشير وعدد متابعيه سينخفض بفعل خوارزميات هذه المواقع. ولأنَّ حياة الإنسان اليوميَّة مهما كان مشهوراً ومشغولاً لا يمكن أنْ يكون فيها كل يوم حدث مهم وملفت، لذلك يلجأ البعض الى سلوكيات لا أخلاقيَّة كالكذب وافتعال المشاجرات واختلاق الأحداث فقط لاستبقاء نظر الجمهور متجهاً إليه، وقد يفلت عقال العقل عند بعضهم فيلجأ الى المقالب، فيعمل صانع المحتوى مقالب بأولاده لإضحاك المتابعين.
إحدى الفاعلات على "السناب شات" ألبستْ ولدها ذا الأربعة أعوام ثياب فتاة ووضعت له الميك آب وهو يبكي وهي تضحك، ما عرضها للمساءلة القانونيَّة وغيرها الكثير. لكنَّ المشكلة لا تتوقف عند صناع المحتوى المشاهير، بل تمتد الى المتابعين أنفسهم، فالمتابعون من مختلف الطبقات، وحين يرى الفقراء منهم أو حتى أصحاب الدخل المحدود البذخ والثراء الذي يعيشه صانع المحتوى يتأثر بصورة سلبيَّة، ويعتقد بأنه يجب أنْ يعيش في المستوى ذاته ويتمتع بكل ما يتمتع به المشهور، حتى لو لجأ الى أساليب غير قانونيَّة أو أخلاقيَّة.
وثيقة تم تسريبها الى وول ستريت جورنال من إحدى المنصات العالميَّة، تؤكد أنَّ فتاة من أصل ثلاثة تعاني من فقدان الثقة بنفسها وشعور سلبي تجاه جسدها من دون أنْ يدركن أنَّ الحياة التي يعرضها نجوم المنصات والسوشيال ميديها أغلبها مزيف ومصطنع؛ وامتد التأثير السلبي للحياة التي يعرضها المشاهير الى الأطفال أيضاً، إذ إنَّ هناك مشاهير من الأطفال يصورون حياتهم العائليَّة مع أبويهم وكلها سعادة وإثارة وهي في الواقع لا تشبه البتة الحياة الطبيعيَّة للأطفال العاديين مع عوائلهم، ما يجعل الطفل يشعر بشعور سلبي تجاه نفسه ووالديه، ويزداد هذا الشعور السلبي كلما رأى الطفل المشهور وهو يتنقل بين الفنادق والبلدان من دون انضباط تربوي أوتعليمي ومن ثم يشعر هذا الطفل العادي بالظلم.
وهنا نحن نتحدث عن اللبنات الأولى والأكثر أهميَّة في تشكيل ميول الطفل وقناعاته ومزاجه وهويته التي سيحملها معه ويحمل تبعاتها طوال حياته. البروفيسور جون أوتس كبير المحاضرين في دراسات الأطفال والشباب في الجامعة المفتوحة في بريطانيا يرى أنَّ أول ضرر قد يعاني منه الطفل هو الضيق العاطفي البسيط، يليه قلة احترام الذات ومن ثم فقدان الشعور بالاستقلاليَّة.
ومن هنا وسط هذا الطوفان من المشاهير علينا ألا نربي أطفالنا على أنَّ الشهرة هي المعيار الوحيد للنجاح وعدم الوقوع في أسر الحياة المزيفة في العالم الافتراضي.