يلجأ تجّار المخدرات في العالم كلّه إلى تقليدٍ ذي جدوى اقتصادية نافعة لهم، مؤداه أن يدخلوا إلى السوق الجديدة بأسعارٍ مخفضة إلى أبعد حدّ بحيث تكاد البضاعة تكون مجانيّة، إلى أن تصل الفئة المستهدفة إلى مرحلة الإدمان، حينها يضع التاجرُ الشاطر السعر الذي يريده، بعد أن تطلب أجساد الضحايا المادّة المخدرة بأيّ ثمن مهما كان عالياً.
في أميركا مثلاً لوحظ أن التجّار الصغار يفعلون ذلك في المدارس الثانوية حصراً، طلبة المرحلة الأولى ينعمون بمخدرات شبه مجانية، لكنهم حين يصلون المرحلة الأخيرة في الدراسة وفي الإدمان معاً سيضطرون لفعل أيّ شيء لإدامة "النعيم" الذي هم فيه. المدرسة سوق مناسبة للتجار لأنّ أجساد الشباب النظيفة تصلح أكشاكاً للتوزيع، لكنّ هناك أسواقاً مثالية أكبر وأكثر إغراءً لهم وهي الدول التي لم تزل "نظيفة" من السموم، كالعراق الذي هو اليوم أكبر كشك لتوزيع المخدارت بالأطنان. العراق منذ ما قبل التاريخ ذو مزاج مائيّ، يصنع الخمور ويستهلكها، وقد وصفتْ لنا ألواح طينية عشرات الطرائق لصناعة الخمر بأنواعه، لم نتأثر بالشعوب المجاورة التي دخلت الحشيشة في أدبياتهم ـ حتى الدينية منها كأشعار المتصوفة الإيرانيين مثلاً ـ بل ظلّتْ المخدرات ـ إلى ما قبل 2003 ـ غريبة على المزاج العراقي السائل المترقرق منذ سيدوري صاحبة الحانة مروراً بأديرة أبي نواس وصولاً إلى خمريات النجفيّ الحصيريّ، واستعارة الخمر دلالة على المحبة الإلهية عند آية الله العظمى الحبوبيّ:
كنْ لـدى جلوتِـها منتبـهاً
فعلى تكييفـها طالَ اللُجـاجْ
أَهي في الكأس أم الكأسُ بها
إذْ بدتْ صِرفاً فأَخفاها المزاجْ
فهمـا شـيءٌ بـدا مشـتبهاً
أمْ هما شيئانِ: خمـرٌ وزجاجْ
لكنّ الصورة انقلبتْ. العراق الآن كشك كبير لبيع المخدرات بأصنافها وبأسعار "تنافسية". سوق جديدة ونظيفة أُغرقتْ ببضاعة شبه مجانية منذ سنوات، وحان موعد الحصاد إذْ باتت أجساد الشباب تطالب بحصتها من السمّ الذي لا غنى عنه بعد اليوم. كلّ الفظائع الإجرامية الغريبة التي تتناقلها الأنباء يومياً، القتل الذريع وزنى المحارم والانتحارات وسواها ثمرة استبدالنا مجانية التعليم بمجانيّة المخدرات.
في الصفحة الأولى من هذا العدد تقرير عن انخفاض سعر المخدرات في العراق!