{الكويكب}.. احتفاء الشخصية الرواقية بمُتع الحياة اليومية

الصفحة الاخيرة 2022/05/09
...

 عدنان حسين أحمد
على الرغم من أن المخرج الإيراني مهدي حسيني وند قد أنجز أربعة أفلام قصيرة إلا أنه معروف في الوسط السينمائي الإيراني كمونتير بارع منتج حتى الآن 62 فيلماً سينمائياً وتلفازياً و 30 مسلسلا وعدة أفلام وثائقية وقصيرة، كما أنه منتج وكاتب سيناريو محترف، ويبدو أن الإخراج كان خلاصة أحلامه الفنية لذلك أقدم على إنجاز فيلمه الروائي الطويل الأول الذي حمل عنوان "الكويكب" Asteroid وقوبل باستحسان النقاد والمشاهدين حتى أنه حصل على جائزة أفضل فيلم بقسم Eastern Vista  في مهرجان الفجر السينمائي في طهران.
يُذكِّرنا هذا الفيلم منذ اللقطة الاستهلالية بأفلام الفتيان المتفردة مثل "أين منزل صديقي؟" لعبّاس كيارستمي و "أطفال الجنة" لمجيد مجيدي، و "كفرناحوم" لنادين لبكي وغيرها من الأفلام التي تدور في فلك الطفولة واليفاعة والصبا، كما أنّ ثيمة الفيلم ليست عصيّة على التشخيص ويمكن أن يستشفها المُشاهِد بسهولة حين يعقِد مقارنة بين أطفال الفقراء المُعدمين وأطفال الأثرياء الموسَرين، فكلٌ يعيش في عالمه الخاص الذي يعرفه جيدًا لكنهم في النهاية يشتركون بالأحلام والتطلعات نفسها بمستقبل أفضل مما يعيشونه في واقع الحال.
تشكّل أسرة ابراهيم الذي جسّد دوره "ابراهيم زاروزهي" بإتقان شديد العصب النابض في الفيلم ولكن هذا لا ينفي أهمية الأسر والشخصيات الأخرى وخاصة أسرة "الأستاذ" الثريّة أو شخصية كريم أو شاكري أو الطيّار الذي هبط في القرية الصحراوية لإصلاح خلل فني في محرّك الطائرة. 
لا بد من الإشارة إلى أن المخرج حسيني وند هو الذي كتب سيناريو الفيلم اعتمادًا على واحدة من مشاهداته لفتى قروي في الصحراء رفض أن يغادر ذاكرته لذلك عاد إليه وأظهره بالصورة التي رأيناها في فيلم "الكويكب"، وحتى لا يضيع القارئ في التفاصيل السردية لقصة الفيلم نوجزها بالشكل التالي: "غادر الأب والأخ الأكبر لابراهيم القرية الصحراوية إلى طهران منذ سنتين بحثا عن عمل يدرُّ عليهما بعض الأموال لكنهما لم يعودا، فواحد قال إنهما قُتلا في الباكستان، وآخر صرّح بأنهما في السجن، وثالث ادعى بأنهما عملاء لجهة ما، غير أن زهرة والدة ابراهيم كانت واثقة بأنهما سيعودان إلى منزلهما ويُرجعان إليه بهجته المفقودة. وفي غياب الأب والأخ الأكبر يصبح ابراهيم رجل الأسرة ومُعيلها وهو لا يتورع عن العمل في أي مهنة، فتارة نراه يرتقي جذع نخلة ويهزّ عذوقها لكي يتساقط التمر الناضج، وتارة أخرى يعمل في نزل تابع لمركز السياحة البيئية ولا يجد صعوبة في اصطحاب السيّاح إلى الصحراء لالتقاط بعض الصور التذكارية، ويخدم في منزل الأستاذ؛ وينظف الاسطبل، ويعتني بالخيل، ويلبي طلبات الابنة الوحيدة المدللة التي فقدت أمها في الهزّة الأرضية التي ضربت مدينة "بَم" وراح ضحيتها آلاف الناس، لا يقتصر هدف ابراهيم على تحصيل الرزق الحلال وإنما بات يفكِّر بتمويل الأم لبناء منزل جديد في القرية كي لا يتجشموا عناء الذهاب والعودة يومياً إلى بيتهم الصحراوي، وعلى الرغم من سلاسة الأحداث، وقوة الحبكة، وجمالية التصوير إلاّ أنّ ميزة الفيلم الأساسية تكمن في شخصية ابراهيم الرواقية Stoical character التي يلجم فيها غرائزه ويتحمّل الألم والمشقة مُعتقداً بأنّ الطريق إلى الراحة النفسية الدائمة هو بتقبّل الواقع كما هو عليه. 
وقد تجلت ملامح شخصيته الرواقية حينما رافق أسرة "الأستاذ" في رحلة ترويحية إلى قرية ده بكري، وهناك اكتشف عالمًا آخر تعيشه غزال؛ ابنة الأستاذ فهي تعزف الموسيقى، وتعلّم الأطفال الغناء، وتتكلم اللغة الفرنسية، وتستعمل "الفلاش ميموري" التي لا يعرفها ابراهيم حينما تطلب منه أن يجلبها من حقيبتها في غرفة ثانية، لكنها ما إن تقرر العودة إلى المدينة حتى يسألها عن سبب هذه المغادرة المفاجئة غير أنها لا تردّ عليه فيكتم لوعته وكأنه يعلن عن حاجته لوجودها في هذه القرية النائية، ثم يرى صورة لزوجة الأستاذ فيسأله إن كان قد طلّقها من قبل لأنها غير موجودة في المنزل فيرد عليه بما معناه أنها غادرت الحياة خلال 11 ثانية لا غير، ثم نفهم من الابنة غزال أنها كانت ضحية لزلزال "بَم" المدمِّر ولكن الأستاذ ظل وفيًا لذكراها ولا خيار له إلاّ أن يلتحق بها ذات يوم، لم نرَ ابراهيم يشكو أو يتذمّر ذات يوم على الرغم من عدم حصوله على شهادة الميلاد وهوية الأحوال المدنية هو وبقية أشقائه الستة ولابد من اجراء فحوصات الـ DNA التي تكلّف 1.5 مليون تومان للشخص الواحد وهذه إشارة إيجابية توحي للمتلقي بإمكانية ذهاب ابراهيم إلى المدرسة ذات يوم، خاصة بعد العوده المُرتقبة لأبيه وشقيقه 
الأكبر.
قد يبدو عنوان الفيلم غريبًا بعض الشيء لكنه يعني، من بين ما يعنيه، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، فعندما يضطر الطيّار للهبوط الاضطراري في القرية الصحراوية يسألهم: من أي كوكب أنتم؟ ويدخل معهم في نقاشات حميمة، ويأكل من زادهم المتواضع، ويلتقط معهم الصور التذكارية، والأهم من ذلك كله أنه يزرع الأمل لدى الطفل المعاق "أبو الفضل" الذي يريد أن يصبح طيارًا رغم أنه مبتور اليدين، ويلعب المُخرج لعبة تقنية جميلة حينما يربط بين الطائرة الحقيقية والطائرة الورقية التي يقودها أبو الفضل رغم ذراعيه المبتورتين.
لابد من الإشارة إلى بعض المواقف الكوميدية التي أضفت على الفيلم مسحة من الأريحية وكأنها متنفس للأسرة التي تعاني من ضنك العيش في تلك المضارب النائية، كما أنّ الفيلم ينطوي على مفاجآت كثيرة مثل ظهور الطائرة، ومرور القطار الطويل في عرض الصحراء، ووجود الأجانب الذين يتحدثون بلغات أجنبية، ولعل المفاجأة الأكبر التي ينهي بها المُخرج فيلمه هي اكتمال بناء البيت الجديد في القرية الذي موّلته الأم الدؤوبة، والابن الذي يعمل بكد اليمين وعرق الجبين حيث اقتنى مرآة كبيرة جمعت 
على صفحتها الصقيلة وجوه أفراد الأسرة السبعة الذين ملؤوا فضاء الغرفة بالضحكات المجلجلة.