طقوس الكتابة والانتظام المدعوم بالشغف

منصة 2022/05/10
...

 كمال عبد الرحمن
في كتابه (أعراف الكتابة السرديَّة) يتحدث عبد الله إبراهيم عن طقوس الكتابة لدى الروائيين، ومن ذلك ما قا له ماركيز "إنَّ تأليف الكتاب مهمة انتحاريَّة، إذ ما من مهنة تتطلب قدراً كبيراً من الوقت، وقدراً كبيراً من العمل، وقدراً كبيراً من التفاني مقارنة بفوائدها الآنيّة، إنني لا أعتقد أنَّ عدداً كبيراً من القرّاء يسألون أنفسهم بعد الانتهاء من كتاب ما عن عدد الساعات المؤلمة، والبلايا المنزليَّة التي مرَّتْ على المؤلف في أثناء تأليفه مئتي صفحة، أو ما هو المبلغ الذي حصل عليه لقاء عمله، وبعد هذا التقويم المحزن للبلايا، يبدو من الأساسي أنْ نسأل أنفسنا عن السبب الذي يدفعنا الى الكتابة".
 
يقول عبد الله في كتابه (أعراف الكتابة السرديَّة) إنَّ "الروايات المميزة هي نتاج طقوس منتظمة مدعومة بالشغف، وليس حاصل خطرات عابرة تلوح لهذا الكاتب أو ذلك"، وذكر إبراهيم طقوس الكتابة لدى عددٍ كبيرٍ من الروائيين، نذكر منهم:
همنغواي يستيقظ باكراً بين الخامسة والسادسة صباحاً، للبدء بالكتابة، عندما يعمل على كتابة قصة أو كتاب، يقول أبدأ كل صباح حين يطلع الضوء، فأكتب بلا توقف، وأتوقف عندما أعرف، ما سيحدث لاحقاً، أكتب حتى تعرف أنك ما زلت تمتلك المزيد، من عصير الكتابة، أنك ما زلت تعرف ما سيحدث لاحقا. و"كان همنغواي يكتب واقفاً قبالة خزانة كتب بارتفاع صدره على آلة كاتبة، وقبل ذلك كان يكتب على ورقٍ خفيفٍ بخفة قشر البصل، وبقلم الرصاص، وكان يتابع عدد الكلمات التي يكتبها كل يوم كي لا يخدع نفسه"، وكتب همنغواي الصفحة الأخيرة من روايته (وداعاً للسلاح) تسعاً وثلاثين مرة، قبل أنْ تنال رضاه.
بروست عزل نفسه بغرفة مبطنة بالفلين للحيلولة دون الضوضاء الخارجيَّة، وللتخفيف من الربو الذي كان يعاني منه، وكان يسند نفسه بوسائد وهو جالس، وكان يطفئ ضوء غرفته لأنه يؤمن بأنَّ الكتب الحقيقيَّة، يجب ألا تولد في ضوء النهار الساطع، وإنما في الظلمة والسكون.
كازانتزاكي لا تنفتح قريحته للكتابة إلا بعد أنْ يتنشَّق رائحة القرفة، التي اعتاد على وضعها تحت أنفه على منضدة الكتابة، فبها يستعيد ذكرى انقضاض أجداده على سفينة توابل قادمة من الشرق، وتوزيع حمولتها من العطور والتوابل على قرى كريت، فكان أنْ أصبحت الجزيرة بأكملها تفوح بتلك الروائح الزكيَّة.
هاندكه: يكتب طول النهار بمنزله بالقلم الرصاص، ويضع الممحاة قربه، ولم يحاول استخدام الآلة الكاتبة، ولا الحواسيب في الكتابة، وهو يحب صوت القلم على الورقة، ذلك الحفيف الخافت، الذي يخترق صمت الغرفة.
كالفينو يقول أكتب بيدي، وأجري كثيراً من التصحيحات، الى حدٍ أستطيع القول معه، إنني أشطب أكثر مما أكتب، إنني أبحث عن الكلمات حينما أتكلم، وتلك هي الصعوبة ذاتها التي أعانيها عندما أكتب.
كونديرا يؤكد ضرورة الحذف، من دون رأفة بالنص، ومراعاة التكثيف، حسب مقتضى الحال، وإلا يسقط الكاتب ضحية الإسهاب، غير المتناهي.
كافكا كتب روايته (أمريكا) بـ 400 صفحة، وتركها مدة من الزمن، ثم عاد إليها، وجدها تتألف من فقرات رديئة، ولم يجد فيها شيئاً جديراً بالاهتمام، غير الفصل الأول، فأعمل فيها الحذف، وسلخها عن زوائدها، ولم يبق منها إلا 56 صفحة، أضاف إليها مئتي صفحة جديدة، ولم يرض عنها، فتركها لدى صديقه.
دان براون: يراجع العمل أكثر من مرَّة، ويستعمل زر الحذف، أكثر من مرة، ومرحلة مراجعة النص، هي أهم خطوة في العمل، ويضيف (مقابل كل صفحة من رواياتي المنشورة، كتبت عشر صفحات، انتهت جميعها الى سلة المهملات).
زفايج: يقول: أكتب في يسرٍ وطلاقة، وفي المسودة الأولى لكل كتاب، أترك خيالي يفرّ معي، ولا أكبح قلمي، وتتكرر عملية التنسيق، مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، في الطبعات التجريبيَّة، وفي النهاية تصبح نوعاً من البحث البهيج عن جملة أخرى، أو حتى مجرد كلمة، لن يقلل غيابها من الدقة، والحق أنَّ الاختصار يمنحني أقصى بهجة.
فوينتس يقول: يجب الانضباط في الكتابة، والالتزام بأعرافها، ويؤكد "لا يختلف الكاتب عن البنّاء، أو سائق الحافلة، يجب عليه أنْ يحافظ على انضباطٍ صارمٍ في العمل".
أوسكار وايلد يقول: "تسهم الكتابة 10 % من العبقريَّة، بينما يتكفل الانضباط بالـ 90 % الباقية منها، ينبغي أنْ يكون للكاتب انضباطٌ صارمٌ في الكتابة، لأنها ليست بالعمل السهل، بل هي عملٌ شاقٌّ، يمارسه المرء في وحدانية طاغية".
ساراماغو يقول: "لا أؤمن بالإلهام، بل لا أعرف حتى ما هو، الكتابة هي عملي، إنها ما أقوم به، ما أبنيه بيدي ورأسي، ما أعرفه هو يجب عليَّ أنْ أقررَ الجلوس على مكتبي، وليس الإلهام ما يدفعني الى الجلوس، شرط الكتابة الأول، هو الجلوس، ثم تأتي الكتابة".
زولا يقول: "الاشتغال في ساعات منتظمة، هو الشرط الأول، من شروط العمل الطويل الأمد، الذي يطمح المرء الى إنجازه بقوة، حتى شوطه الأخير".
باموك يقول: "العزلة دواءٌ ناجعٌ للكتابة، لم أكن صديقاً لأي من الكُتاب الأتراك في جيلي، وزادتني العزلة قلقاً على مستقبلي، وأكتشفت أنَّ ثمة آخرين، يشعرون بمثل ما أشعر به، والمسافة بين ما كنت أشتهيه وحققته، مسافة طبيعيَّة، وإنَّ نفوري من الحياة اليوميَّة المعتادة، ليس علامة على علَّة تعتريني، بل دليل ذكاء".
أليف شافاك تقول: "لا نحتاج، عندما ننشغل بالسرد، الى تسييج أنفسنا بحدود المنطق، لكنْ على العكس هو ما نريده، الاندفاع الى الغوص بمقدمة رؤوسنا في بحيرة اللا معقول، البحيرة التي لفرط كثافتها بلا قرار، وبذلك نستطيع الكتابة عن القوى الخارقة، والسحر، والجنيات، وهذا لا يتعارض مع أننا، في حياتنا اليوميَّة، نتقيد بقوانين مختلفة، تشكل عالمنا المنطقي والمتصلب".
يوسا يقول: "أترك الأفكار والصور تتخمر، ثم أشرع في الهذيان، أي إدخال بعض الشخصيات على الفكرة ـــ البذرة، وفي أحد الأيام أكتشف على نحوٍ شبه عرضي، أنَّ فكرتي تلك أصبحت مشروعاً، آنذاك أبدأ في تدوين الملاحظات، وإذا أصبح المشروع هاجساً، يعني أنَّ تلك القصص صارت جديرة باهتمامي".
والخلاصة في كتابه المهم يبيَّن الدكتور عبد الله إبراهيم، أنَّ ثمة تفاصيل صغيرة قد لا يراها أحد، لكنها تشغل الروائيين وتؤرقهم، هي ما يسمى طقوس الكتابة، أو كما سماها دكتور إبراهيم (أعراف الكتابة السرديَّة)، فهذه التفاصيل المخفية هي جزءٌ من همومٍ كبيرة وكثيرة، يعاني منها الكُتاب، ولا يستطيعون التحدث بها الى أحد، لأنَّ هذا (الأحد) ربما لا يهمه شيء من معاناة الروائيين الشخصيَّة، وما يهمه هو ما يراه ويقرأه من أعمال روائيَّة، أما كيف كُتبت الرواية، وما ظروف ومشكلات وهموم كتابتها، فهذا ما لا يهمه بشيء، وهي طقوس ولادة عسرة لنصٍ سردي، يمرُّ بقنوات متعددة قبل أنْ يصل (فريش) أي بحالة طازجة، يستقبلها القارئ، من دون أنْ يلتفتَ الى مجموعة البلايا التي عانى منها الكاتب كما يقول ماركيز.