أحمد عبد الحسين
من أكثر الأشياء سورياليّة في حياتنا المليئة بالخبال، الدكّة العشائرية، فهي إضافة إلى كونها فعلاً بدائياً من بقايا ممارسات سكّان الكهوف، فإنَّ وظيفتها مضحكة: دعوة شخص للتفاوض والتفاهم من خلال إمطار بيته بوابل من الرصاص والقنابل.
العشيرة جسم طبيعيّ في المجتمع ما دام هناك رباط من نسب دمويّ يشدّ الأسر لبعضها، لكنَّ هذا الجسم في علاقة متنافرة أبداً مع الدولة. كثيرٌ مما يقوّيه ويجعله سيّداً لا يأتي إلا على حساب الدولة وسلاحها الأمضى: القانون. وفي الأزمنة التي تقوى فيها شكيمة الدولة ويكون لها سلطان على رعاياها فإنَّ هذا النسب الدمويّ يعود إلى طبيعته، علاقاتٍ وأعرافاً سويَّة من دون سلاحٍ يلعلع ومجاميع من مجانين يردحون ويثيرون غباراً استعداداً للقتل، شأن احتفال طقسيّ لقبيلة بدائية في مجاهل أفريقيا يسبق تحضير ضحيتهم البشرية للعشاء.
العشيرة هويّة فرعيّة لا غنى عنها، وفي لحظات مصيرية كانت نافعة ومنتجة، لكنّ أمراً ما جعلها منشغلة بالسلاح وشؤونه فقط ومهووسة بأدبيّات الردح الفارغ و"المزامط" وتعداد مآثر لا وجود لها وتهويل مزايا أفرادها، إلى أن صارت قوّة مختصّة باستيفاء ثأر ليس إلا.
ومعلوم أنَّ الثأر عمل لا نهاية له. أنا أقتل منك لأنك قتلت مني، لكنك قتلت مني فيجب أن أقتل منك في دورة لا تنتهي إلا بدعوة على العشاء والتفاوض وحل الأمور، وهذه الدعوة اللطيفة تأتي لك على شكل حرب مصغرة أمام باب بيتك الذي سيفتحه أطفالك المرعوبون في صباح الغد ـ إذا بقوا أحياء ـ ليجدوه مليئاً بالثقوب.
هويّات ما قبل الدولة "كالعشيرة والطائفة" لا تشتغل بكفاءة إلا حين يكون في يدها بندقية. من دونها تُنسى أو في أفضل الأحوال تظلّ في مجالها الحيويّ الطبيعيّ ولا تطمح إلى احتلال الفضاء العامّ بمسلحيها وأدبياتها المخجلة.
هناك شيوخ عشائر محترمون مثقفون يريدون تغيير هذا الوضع الشاذّ، أعرفهم جيداً، لكنَّ صوتهم ضائعفي جلبة المزامط والرغبة في إظهار القوّة السافرة التي تلخصهاالهوسة التي سمعتها مرة على لسان مهوال قريبي: "احنه أهل الباطل اخذ الحگ وسولف بي".
نعم.. نحن أهل الباطل ولا فخر!