الولدُ الهارب

الصفحة الاخيرة 2022/05/15
...

 بغداد: نوارة محمد
       بحلول الخامسة فجراً تنهد مغمضاً عينيه واضعاً يديه في جيوبه، من خلفِ الأبواب الموصدة خرج، كان ذلك واضحا من كاميرات المراقبة لبيت جيرانه، والتي نقلت المشهد واضحاً، ربما كان الإحساس بالخوف المتواصل لا يزال بداخله مستمرًا، لكنه حسم أمرهُ بالفعل وبدت ملامح التحدي واضحة عليه هذه المرة.
كانت الساعة قد تعدت الثانية بعد منتصف الليل حين أخذ شهاب حماماً ساخناً ونظف أسنانهُ جيداً، واستلقى في فراشهُ مطمئنا. أدرك سرعان ما تفحص جلده ويداه التي تورمت بفعل سوط والده أنها ساعاتهُ الأخيرة في هذا البيت وبين جدران غرفته هذه.
في ذلك النهار الذي تعاون والده وأخوه الأكبر على ضربه - كما يفعلون غالبا - بعد أن أبلغهم أستاذ اللغة الإنكليزية أنه لم يحضر الدرس الخصوصي، لا سيما أن الاب كان شديد الحرص على أن يتلقى دروسه ليكون قادرا على جمع معدل عالٍ  في السادس الاعدادي. كان نهارا شديد السواد، لكنه قرر الرحيل سريعا مُدركا أن هنالك آلاف الأشياء تنتظره في هذا العالم، التي لم يرها بعد لكن دموع والدتهُ كانت تقف بوجه 
مراراً. تعاقبت المشاهد  في ذاكرته تتقلب كصور فوتوغرافية، لم تكن المرة الأولى كان له تاريخ طويل مع الضرب والتعنيف اللفظي والجسدي، انتهت بقرار ترك المنزل، رفع شعره إلى الوراء، مرتديا حذاءً رياضياً أكل الدهر عليه وشرب، تاركاً قدميه تعمل بأقصى سرعتها، مكملاً سيره من أزقة حي أور نحو المجهول.  منذ ذلك الحين واجتماعات القبيلةُ عند منزلهُ تُقام كل ليلة، ويقضي والده أيامه عند الأضرحة المقدسة مُتضرعاً للأئمة، ومجرباً كل الأدعية وكل الصلوات، قارئا كل السور التي تتِيحها السماء لقضاء الحاجات، ربما يعثر على خيط يوصله لشهاب.
ربما هي ليست طريقة جيدة في الرحيل، وربما وعلى الأرجح لم يكن يخطط لذلك يوما، لولا جلدهُ المِزرق، كان وجههُ مسالماً دون إشارة لطيش أو قِلة أدب، كان شديدُ الحساسية، وربما هذا ما جعله يترك بين أوراقه وكُتب السادس الإعدادي ورقة مكتوبا عليها «حاولت جاهداً ألا أظهر مشاعري لأحد، سواكِ أمي، لكنها ظلت مُختبئة هُنا في مكان ما، أحلامي لم أعد قادرا على تحقيقها هُنا، والعالم فضاء واسع جدا الذي سيحتويني بعدكِ.