الثقوب السوداء.. وحوشٌ كونيَّة شديدة القوة والعمق

علوم وتكنلوجيا 2022/05/16
...

 مايا ويهاس
 ترجمة: أنيس الصفار
الثقوب السوداء هي نقاط في الفضاء شديدة الكثافة الى حد أنها تصنع ما يشبه بالوعة جذب شديدة القوة والعمق. يحيط الثقب الأسود نفسه الى مسافة معينة بمنطقة جذب عظيمة القوة يعجز حتى الضوء عن الإفلات منها ولا يغامر بالاقتراب منها شيء.. سواء كان ذلك الشيء نجماً (أي شمساً) أو كوكباً أو مركبة فضاء لأنه سيتعرض للمطّ ثم الانضغاط مثل العجينة الطريَّة بعمليَّة نظريَّة تعرف بالـ"spaghettification" أو "السبغتة" (اشتقاقاً من كلمة سباغيتي اي معكرونة – المترجم).
 
موتُ نجمٍ من النجوم
تكون الثقوب السوداء على أربعة أنواع: النجمي والمتوسط وخارق الكتلة والمصغّر، والطريقة المعروفة الأكثر شيوعاً لتكوّن الثقب الأسود تبدأ عندما يموت نجمٌ من النجوم. فعندما تبلغ النجوم المراحل النهائيَّة من أعمارها يأخذ معظمها بالانتفاخ وفقدان كتلته ومن بعد ذلك تبرد الى أنْ تتحول الى ما يسمى "الأقزام البيضاء". بيد أنَّ أكبر هذه الأجسام الناريَّة، وهي تلك التي لا تقل كتلتها عن 10 الى 20 مرَّة بقدر كتلة شمسنا، يكون مصيرها التحول إما الى نجومٍ نيوترونيَّة خارقة الكثافة أو الى ما يسمى "الثقب الأسود نجمي الكثافة". في مركز مجرتنا هناك ثقبٌ أسود من النوع خارق الكثافة يدور حول نفسه كالمطحنة.
في مراحلها الأخيرة تنطفئ النجوم الكبرى محدثة تفجرات هائلة وعندئذ تعرف باسم "سوبرنوفا" أو (المستعرات العظمى)، هذه التفجرات تقذف بمادة النجم الى أرجاء الفضاء تاركة وراءها قلب النجم. إبان حياة النجم كانت عمليَّة الاندماج النووي المستمرة تخلق قوة دفع ثابتة مقابلة الى الخارج تعادل قوة شدّ الجاذبيَّة الى الداخل المتأتية من كتلة النجم نفسها. لكنَّ البقايا المتخلفة في السوبرنوفا لا يعود فيها بعد تبعثر مادة النجم أية قوة معاكسة لمعادلة قوة الجاذبية، لذا يبدأ النجم بالتقوض على نفسه الى الداخل.
إذا ما استمرت كتلة النجم بالتقوض داخلياً حد بلوغ نقطة متناهية الصغر فسيولد ثقب أسود عندئذ. تجمّع كل تلك الكتلة الضخمة، التي تفوق كتلة شمسنا بأضعافٍ مضاعفة، وتراصّها في نقطة صغيرة هو الذي يعطي الثقوب السوداء قوّة جذبها العظيمة، ومن المتوقع أنْ تكون هناك ألوفٌ من هذه الثقوب السوداء النجميَّة الكتل كامنة في مجرتنا "درب التبانة".
 
ليست متشابهة
الثقوب السوداء خارقة الكتلة، التي تنبأت بوجودها نظريَّة النسبيَّة العامة لاينشتاين، يمكن أنْ تكون لها كتلٌ تعادل مليارات الشموس، وهذه الوحوش الكونيَّة قد تكون كامنة في مراكز معظم المجرات. مجرة "درب التبانة" نفسها عندها ثقب أسود خارقُ الكتلة في مركزها يعرف باسم "ساجيتاريوس أي ستار" (أو مجموعة القوس)، وله كتلة تفوق كتلة شمسنا بأربعة ملايين مرة.
أما أصغر أفراد عائلة الثقوب السوداء حجماً فلا يزالون حتى الآن مجرد حسابات نظريَّة. هذه الدوامات الصغيرة من العتمة الدامسة قد تكون خرجت الى الحياة بعد وقتٍ قصيرٍ من نشوء الكون إبان الانفجار الكبير، أي قبل نحو 13,7 مليار سنة، لكنها سرعان ما عادت فتبخرت. كذلك لدى علماء الفلك شكوكٌ بوجود فئة من الأجرام الكونيَّة تسمى "الثقوب السوداء متوسطة الكتلة"، لكنَّ دلائل وجودها لا تزال موضع جدال.
حجوم الثقوب السوداء عند بدايتها ليست مهمَّة لأنها تبقى قادرة على النمو طيلة فترة حياتها من خلال ابتلاع الغازات والغبار من اية أجسام يقدر لها التقرّب منها. فأي جسم يتخطى ما يسمى "افق الحدث"، وهي النقطة التي يصبح الفلات فيها مستحيلاً، ينتهي به المصير نظرياً الى الوقوع في "السبغتة" بفعل التصاعد الشديد في قوة الجاذبيَّة التي تسلط عليه وهو يهوي داخل الثقب الاسود.
يصف عالم الفيزياء الفلكية "نيل ديغراس تايسون" العملية فيقول: "تجد نفسك معرضاً للمط والسحب وفي الوقت نفسه للعصر ثم النفوذ بفعل الضغط عبر نسيج الفضاء مثلما يعتصر معجون الأسنان خارج انبوبته".
لكنَّ الثقوب السوداء ليست بالضبط "مكانس شفط كونيَّة" مثلما يروق للإعلام الرائج أنْ يصورها. فالأجسام يجب أنْ تقترب جداً من الثقب قبل أنْ تخسر مباراة شد الحبل هذه.
 
اختراق حجب الظلام
لا يستطيع علماء الفلك رؤية الثقوب السوداء وتحديد مواقعها بالطرق المباشرة مثلما يفعلون مع سائر الأجرام السماويَّة الملتمعة المتلألئة نظراً لكونها تبتلع الضوء وتمنع مروره كي نرصده ونراه، بيد أنَّ هناك بضعة مفاتيح يمكن الاستعانة بها للكشف عن وجود الثقب الأسود.
أحد هذه المفاتيح هي قوّة الشدّ العظيمة التي يسلطها الثقب الأسود على الأجرام المحيطة به. لذا يستدلُّ علماء الفلك لدى رؤيتهم أي حركات شاذة متوترة على وجود وحشٍ مستترٍ عن الأنظار كامنٍ في مكانٍ غير بعيد. كذلك يمكن أنْ تكون هناك أجرامٌ تدور حول الثقب الأسود في مدارات ثابتة، فحين تلوح لعلماء الفلك نجومٌ تبدو وكأنها تدور حول شيء لا يمكنهم تحريه سيعدون ذلك مرشحاً محتملاً. بهذه الطريقة تمكن علماء الفلك في مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة أنْ يحددوا كون "ساجيتاريوس أي ستار" ثقباً أسود.
كذلك تتصف الثقوب السوداء بأنها آكلات فوضويَّة نهمة، لذا تراها في كثيرٍ من الأحيان تفضح نفسها وتدلُّ على مواقعها. فعندما تواصل الثقوب السوداء ابتلاع النجوم المحيطة بها تؤدي قوى الجاذبية والمغناطيسية الجبارة الى تسخين الغازات والغبار المتساقطة إليها، الأمر الذي يتسبب بانبعاث إشعاع. بعض هذه المواد المتوهجة تصبح غلافاً يلف الثقب الأسود ليكوّن منطقة دوّامة تدعى "قرص التراكم". كذلك لا يشترط بالمادة التي تتساقط داخل الثقب الأسود أنْ تبقى فيه، إذ يمكن للثقوب السوداء أحياناً أنْ تلفظ الغبار النجمي المتساقط بداخلها الى الخارج بعمليَّة تشبه تجشؤاً هائلاً مشبعاً بالإشعاع.
 
ليست "سوى البداية"
بات في رصيد الباحثة كايتي باومان إنجازان علميان كبيران، وهي لمّا تتجاوز الثالثة والثلاثين، إذ بعد مساهمتها عام 2019 في الحصول على أول صورة لثقب أسود يقع في مجرة بعيد، كان لها مجدداً دورٌ رئيسٌ في الصورة التي نُشرت الخميس الفائت لثقب أسود هائل في قلب مجرتنا يحمل اسم "ساجيتاريوس ايه".
وقبل بضع سنوات، أصبحت كايتي باومان من المشاهير العالميين، حتى أنها دُعيت إلى الكونغرس الأميركي، ولا تزال الباحثة التي أصبحت حالياً متخصصة في التصوير الحسابي في جامعة "كالتك" في كاليفورنيا، ضمن فريق عمل مشروع التعاون الدولي الضخم "إيفنت هورايزن تلسكوب" الذي أتاح هذا الاكتشاف.
وعُهد إلى فريق عملها بإعادة بناء صورة واضحة للثقب استناداً إلى كمية كبيرة جداً من البيانات جمعتها التلسكوبات في العالم.
تقول الباحثة كايتي باومان إنّ الصورة الأولى كانت مذهلة، لأنّها كانت أول مرة نرى فيها ثقباً أسود. لكننّي أعتقد أنَّ الهدف الأبرز لمشروع "إيفنت هورايزن تلسكوب" كان دائماً يتمثل في الحصول على صورة لـ"ساجيتاريوس ايه*".
والسبب في ذلك يعود إلى أننا نملك معلومات أكثر بكثير عن الشكل الذي يُفترض أن يكون عليه "ساجيتاريوس ايه*"، من خلال عمليات رصد أخرى (من بينها مثلاً دوران النجوم حول الثقب). لذلك، إنّ الحصول على صورة له سهّل علينا المقارنة مع ما كنّا نتوقع، استناداً إلى عمليات رصد ونظريات سابقة.
وأعتقد تالياً أنّ هذه الصورة أكثر أهمية رغم كونها الثانية للثقب، لأننا نستطيع استخدامها لنختبر أكثر فهمنا لمسألة الجاذبية.
وتساهم عوامل عدة في جعل الحصول على صورة لـ"ساجيتاريوس ايه*" أكثر صعوبة. الأول هو أن النظر إلى الثقب الأسود يتم من زاوية مجرتنا، ما يعني أنّ الغاز الموجود في المجرة يتداخل مع الصورة، والأمر يشبه إلى حد ما النظر عبر نافذة لا توفر رؤية واضحة، كما يحصل مثلاً أثناء الاستحمام.
وتضيف "إنّ الثقوب تتقاطع مع المعلومات التي نعرفها. ولا يستطيع الضوء حتى الخروج منها، كما أنها تحدث خللاً في الزمكان حولها. إنّها هذا الشيء الغامض وأعتقد أنّها تأسر خيالنا.
 
عن موقع "ناشنال جيوغرافك"