أعمال هاتف فرحان .. استحضار الواقع في سردٍ صوريٍ مؤلم

منصة 2022/05/17
...

  خضير الزيدي
 
أكثر ما يثير في أعمال الفنان هاتف فرحان الفوتوغرافيَّة، أنَّها تتبنى سرداً بصرياً قابلاً للتأويل لأنها تمارس توضيحاً للحقائق التي نحياها، لهذا تبدو عناصر تلك الصورة وكأنها كيانٌ موحدٌ غير قابلٍ للتفكيك، لا تمارس وهماً ولا تبدي للمتلقي غرابة بعد رؤيتها.
أعمالٌ قابلة للتأثير في النفس الإنسانيَّة ممتلئة بطاقة حكي لتأتي أهميتها من خلال حمولاتها التعبيريَّة تنسجم كوحدة موضوعيَّة لها نسقها العام من دون أنْ نلجأ لتفسيرها، كل عمل من صوره الفوتوغرافية ينتمي لفكرة ويحمل جرأة في إبداء مضمونه وهذه الركيزة تعتمد في الأساس على منطق إبداء الحكاية والاقتراب من تبسيطها في الفوتوغراف وقابليتها كضرورة لفهم العالم الخارجي في ذات الوقت تفصح عن مقاربة بين المتخيل والواقعي عندما تقتصر على شخصٍ واحدٍ يسهمُ بكيانه أمام معضلة وجوده أو حينما يرينا مظاهر حياتيَّة تمثل نسقاً غريباً كما في إحدى صوره لامرأتين كبيرتين في السن وهما تتصفحان مجلة أو كتاباً، أضف لذلك اهتمامه بالمسنين وحركتهم وسط الشارع.
هذه التركة الفنيَّة ولقطاتها تأتي ضمن أسلوبٍ متفردٍ كبصمة جماليَّة ومرجعيَّة لتوثيق أمكنة بغداد وأهلها فكيف يحدث ذلك في منجز هذا الفنان؟
تعتمد أغلب اللقطات على مشاهد متعددة تنحصر في حدٍ معينٍ وعلى قدرٍ من الأهمية يجيء اختيار اللقطة كتوثيقٍ لتلك الحكاية وليس لصورة نعيشها، يفرض هذا المنطق الصوري أنْ نعي أهمية نقطة الانطلاقة والضوء وهاجس الخروج من الكاميرا، هنا سنجد متغيراً في المحاولات المتعددة التي يريد لها أنْ تكون فيها اللقطة أكثر جاذبيَّة في تأثيرنا، في الحقيقة ثمة استغراقٌ في تحديد (لقطته) وتحويلها لخطابٍ بصري مشدودٍ لتبني فكرة معينة، لكنَّ التساؤل: كيف يصل الفنان لكل ذلك التناغم والقدرة في بث تلك الحساسيَّة وجماليتها التعبيريَّة؟
هناك مخيلة لدى الفنان تظهر أنماطاً في واجهته التعبيريَّة بعد إنجاز كل صوره الخاصة معتمدة في تمثيل الواقع وإثارته وفرض نوعٍ من (العودة الى الحنين في الصورة القديمة) وحسب ما يقوله ريجيس دوبري (التسلسل الزمني لا يعين أبداً نضج فنٍ ما) لكن في العودة الى الماضي هناك ارتباطٌ نفسيٌّ واجتماعيٌّ تعمل الذاكرة في إيجاد توازن يقابله استحسانٌ لتلك العودة، وحتى لا نتجاهل القيمة الثقافيَّة والجماليَّة لمعنى وجود الفن الفوتوغرافي بيننا يتوجب مشاركته أمامنا كفنٍ وذائقة وتوثيقٍ لتاريخ ومكانٍ معينٍ. رؤية الفنان هاتف فرحان لا تكل من تحقيق غاية تدعم جدل الواقع مع الذات الإنسانيَّة، تحفزنا لنعرف ما ينتجه المحيط الحياتي من تناقضٍ وتوافقٍ، وهذه الأفكار بمثابة عمليَّة استئصال لكل ما هو سلبي، نعم تفعل الصورة الفوتوغرافية فعل ذلك من خلال تكوين منظور خاص لقيمتها التعبيرية وما تخصه من توثيق هذه القدرة تأتي بعد صعوبة واهتمام بمغزى واقعيَّة الفن كمرشد واتجاه مطلوب له معاييره وتنظيمه وخصوصيته.
أهم ما في الصورة استقلاليتها وحقيقة وجودها ومنطق الحقيقة يخبرنا أنها مرجعٌ لوقتٍ ومكانٍ ثابت، موضوعها ليس ملتبساً ولم يكن معقداً، فقط هناك مخيلة تتدرب على التقاط ما يوده الفنان أنْ يكون ضرورة لنا جميعاً، في الفوتوغراف الصورة تحكي ما كان ملتبساً تذهب بحجمها الكبير والصغير لتوضيح الحقيقة ما علينا إلا أنْ نصدقها من خلال اعتمادها على التشهير بالحياة بكل تناقضاتها ونفهم منها أنها تعالج رغبتنا في الاندماج من ناحية نفسيَّة لهذا يوجد حنينٌ غريبٌ في داخل كلٍ منا وهو يعيد التذكير بصوره الأسريَّة القديمة أنها مجسات تصلح للاستعمال النفسي والرمزي معاً.
هذا الفنان اعتمد نوعاً من السحر الصوري مستخدماً كل ما يميز عمله من إضاءة وظلٍ وتفاعلٍ ينتج عنه نسيجٌ من مشتركات الفوتوغراف، لا وجود لعلامة غريبة في صورته، توجد محاكاة وجدرانٌ ومقاهٍ وشقوقٌ وعكازة رجل مسنٍ وأريكة، توجد وجوهٌ محملة بتعب السنوات... والعمل ضمن هذا المنطق لا يستدعي فضائح أبطاله ممن يصورهم، إنما يعيد لنا ما يتصوره (هابرماس) حينما يصور الثقافة مثل أية ظاهرة موضوعيَّة ويبدي اعتراضه على التركيز على التقاليد.
هاتف فرحان في لمساته ولقطاته يفي بالغرض الذي نريده بيننا حينما ندعو لتكون الصورة الفوتوغرافيَّة موجودة في مفاصل يومياتنا ليس من باب الدعاية والانتشاء الكاذب إنما لنجعلها مدخلاً للسلوك الجوهري للبقاء على هذه الأرض، إذاً نحن أمام ارتباط رمزي واختزال لحياة مليئة بالصخب في صورة واحدة وهذا ما يفعله هاتف فرحان في جميع أعماله الفنيَّة.
ـ