أحمد عبد الحسين
العراق ولبنان مثالان يحتذيان بعضهما ويكرر الواحد منهما الآخر وينسخ بعضهما بعضاً، والأسباب متعددة، منها ما يقال بملء الفم كتطابق التركيبتين الطائفية والسياسية، ومنها ما يقال همساً بصوت خفيض لئلا يسمعنا أحد كتسلط ذات الدولة الإقليمية على مقدرات كلّ منهما.
الانتخابات اللبنانية الأخيرة كانت موّالاً محمداوياً عراقياً. خسر فيها منْ ظنّ أنه لن يخسر أبداً لأنه صاحب مالٍ وسلاح ومدعّم بمواقف أقوى دول المنطقة، لكنّ خسارته ليست نهائية، فالفائزون وإنْ احتفلوا بالأغاني والدبكات ستكون في انتظارهم أيام وليالٍ عسيرة لا احتكام في نتائجها للصناديق بل للمال والسلاح ومواقف الدول.
وهو عين ما حصل عندنا طباقاً، فاز الفائزون واحتفلوا، فظهر في المنعطف التالي أنهم لم يفوزوا تماماً، ولجأ غرماؤهم إلى الثلث المعطّل، وهو بالمناسبة موال عتابا وميجنا لبنانيّ استعرناه من توأمنا الذي نسير معه يداً بيدٍ إلى المجهول.
مضى زمنٌ كان العرب يظنون أن الديموقراطية ترياق مجرّب لكلّ السموم، وكانوا يعيبون على الممالك والمشيخات "كدول الخليج مثلاً" أنها خارج التاريخ لبعدها عن الديموقراطية، كما يعيبون على الأنظمة الشمولية "كسوريا الأسد وعراق صدام" أنّ تنكّرها للديموقراطية سبب هزائمها وهزائمنا، واتضح اليوم أنّ الديموقراطية ـ التي هي عندنا صندوق انتخاب وحسب ـ ليست وصفة طبيب شافية من كلّ سقم.
أمراضنا أعقد وأكثر استعصاء. استبدلنا الهوية الوطنية بهوية طائفيّة، وسلّمنا مقادير هذه الهويّة إلى دول محيطة بنا، سلّم السنّي مهمة التحدث باسم السنة للسعودية عن طيب خاطر، وسلّم الشيعيّ مفتاح بيت الشيعة إلى الإيرانيّ بكلّ حبّ، وتصارعنا نحن لنحدّد هوية السيد المنتصر.
كلّ هذا يقال غمغمة وبلسانٍ خائف لأن الكلام فيه يدخل في خانة غير المسموح تداوله، ولهذا اخترنا أسلم الطرق وأسهلها وأقلها كلفة وهو الحديث عن الديموقراطية ونتائجها وصراع قوى في لعبة سياسية، كما لو أن مواطناً ألمانياً أو سويدياً يتحدث عن انتخابات بلاده. في لبنان كما في العراق، ما يُنطق به غمغمة هو الأصدق، وما يُلفظ همساً هو الجوهريّ، أما ما يُزعق به في الشاشات على لسان المحللين السياسيين فهو ثريد كلام لملء ساعات البثّ التلفزيوني لا أكثر.
ما يُهمس به خوفاً وما يقوله الإنسان ويتلفت خوفاً من أن يسمعه أحد، هو الكلام الحقّ الذي يلخص حال البلدين المنكوبين، أما المواويل التي على طور العتابا والمحمداوي والميجنا والشطراوي فهي تسليتنا الوحيدة في طريقنا إلى الهاوية.