مظفر الذي مات مرتين

العراق 2022/05/21
...

أحمد عبد الحسين
 
مظفر النوّاب شاعر صوفيّ. قلّما انتبه أحد إلى ذلك. ضاعتْ روحانيته في أغراضه الأخرى التي أحبّها الجمهور وتلقّفها في زمنٍ كانت فيه شتيمة الحكّام وظيفة الشعراء الثوريين، قبل أن تصبح متاحة للجميع في وسائل التواصل.
يشفّ مظفر ويرقّ حتى لتنسى أنه المناضل الذي سُجن وهو في مقتبل عمره، وأنه حفر مع رفاقه خندقاً ليهرب من السجن في واقعة ستظلّ فريدة في غرائبيتها، وأنه الهجّاء الأكثر حدّة في الشعر العربيّ، وتنسى "حزبيته" التي تلوح في ثنايا نصه، ننساها حين تسمو به "روحانيته الماديّة" بعيداً عن أرض التزاحم والكثرات والنزاعات.
كتبتُ مرة مقدمة لديوان الشاعرة الإيرانية الكبيرة "فروغ فرخزاد" وذكرت أن لديها تلك الصوفية الممتزجة بتراب الأرض ومتطلعة إلى سماء الروحانية، وأحسب أن مصطلح "التصوّف الماديّ" الذي يصدق لوصف فروغ يصدق كذلك لوصف مفكرنا العراقي هادي العلوي، كما يصدق بشكل أكيد لوصف شاعرنا الذي رحل أمس.
في أيام دمشق، أيام النفي، وكنّا نلتقي مع مظفر أسبوعياً تقريباً صحبة مثقفين عراقيين وسوريين، حدثني مظفر عن تجربة حياة بعد الموت عاشها هو شخصياً. قال: كنت في المستشفى، وتوقف قلبي، متُّ ورأيتني أرتفع شيئاً فشيئاً ورأيت القادمين لزيارتي ثم انفتحت بصيريتي بشكل لا يصدّق حتى رأيت الكاظمية وبيتي الأول وصرتُ أعرف أشياء لم أكن أعرفها، قبل أن أعود إلى الحياة ثانية. لم يكن يتكلم عن الأمر بوصفه معجزة أو عجيبة، بل يراه كشفاً عما يمكن للإنسان أن يعرفه إذا أحسن التأمل في ذاته.
في شعره المصفّى من كدورة الغرض نلحظ شفافية كهذه:
سقطتْ زهرةُ لوزٍ، غيمةً في قدحي
يا ربّ ما هذا النَّقا؟
غرقتْ، لم أستطع إنقاذها،
أصبعي زاغت من السُّكرِ، وقلبي شَهَقَا.
ما لها الكرمة لا تعرفني؟ أمسِ رقرقتُ لها خمرتَها
وأنا اليوم على خمرتِها، دمعي وأمسي رقرقَا!
مات مظفر النوّاب اليوم مرة ثانية وأخيرة، وهو الآن يرتفع أعلى منّا، أكثر معرفة وأشدّ بصيرة، يستذكر منبته الأول وحياته المديدة التي عاشها بشرفٍ ونقاء ضمير وشعر ستتناقله الأجيال.