أحمد عبد الحسين
كُلّ الأمور تبدأ وتنتهي في اللغة، ولا شيء خارجها. لأنّ كلّ شيء هو في الحقيقة خطاب. إذا كنت منتصراً فسيكون خطابك خطاب منتصرين، وإنْ كنت ضعيفاً فإنك مهما رفعتَ صوتك وتجاسرتَ لفظياً فسيبقى في ثنايا خطابك ما يؤكد أنك ضعيف مهزوم.
أتذكر مقالة للكاتب علي حرب عن خطاب صدام عشية ضرب العراق في 1991، كتب أن الهزيمة ستكون منكرة لأن الخطاب خطاب مهزومين. وبالفعل كانت اللغة الزاعقة والصوت العالي والعنترية والتنطّع واستعادة الماضي التليد، كاشفة عن خواءٍ يطلب تعويضاً لغوياً ليتوازن.
مَنْ لا يملك فهماً جديداً لا يمكنه إنشاء خطاب جديد. سيظلّ يلوك مقولاته الدهريّة باللغة الدهرية ذاتها، وفي باله أنّ قوّة اللفظ وحدها كافية لترميم فقره. وهذا هو حال السياسة العراقية اليوم: لا أحد من الساسة قادر على إنتاج خطاب خارج الكليشيهات الفارغة التي أصبحتْ مضحكة، بل منفرة، وكلما زاد إصرار السياسيّ على ترداد خطابه القديم، ابتعد مسافة أكبر عن عقول وقلوب الناس.
في السياسة، كما في الأدب والفنّ وسائر مناحي الحياة، إنْ لم تحز الإقناع فأنت مخفق مهما اجتهدت. وخطاب السياسيين لم يعد مقنعاً أبداً حتى لو حشر واحدهم كل الألفاظ الدالة على القداسة في فمه وألقاها علينا. ثمة أجيال جديدة صارت تسليتهم الوحيدة السخرية من هذه الخطب، بل هناك ما هو أخطر: يتخلّق في لا وعي كثير من الشباب أنّ مخالفة وصايا السياسيين وعظات أحزابهم واجبة، حتى لو كانت هذه الوصايا والعظات تدعو ـ في ظاهرها ـ إلى مكارم الأخلاق والسلوك الحسن. لغتها المتخشبة تجعل لها مفعولاً مضاداً بالكامل لمنطوقها. وهكذا فإنّ خطب الفضيلة قد تكون سبباً للرذيلة.
والحاصل: كلما زاد الوعاظ قلّ المتعظون، وكلّما تكاثر المرشدون تناقص الراشدون، وليس هذا بسبب شيطان رجيم ومؤامرات كوكبية، بل هو بشكل أكيد بسبب كذب الساسة وانغماس كثير منهم في رذيلة الفساد وعدم رغبتهم في التعرّف على هموم الناس وعجزهم عن أن ينشئوا خطاباً جديداً يقرّبهم من شعبهم.
لا يعرف الناس، وقد يعرفون بعد فوات الأوان، أنّ من انتهى أوانُ خطابه وصار رثاً فهذا يعني أنه هو نفسه انتهى.