منذ تأسيسه ثكنة عسكريّة. حتى أوقات السلم القليلة التي عشناها، كانت الأصابع على الزناد ترقباً لحربٍ مقبلة لا محالة وإنْ كنّا نجهل اسم العدوّ.
في الثكنة العسكرية يحيا الإنسان حياته في حدّها الأدنى، يباشر ما يبقيه حياً مستعداً للقتال، ولذا كان يُنظر إلى الفئات التي لا يتصرف أفرادها كأبناء مخلصين للثكنة نظرةَ ارتياب ممزوجة بسخرية واحتقار. لا شيء يذكّر بالرفاهية وملذات الحياة الطبيعية بل احتقار بدويّ للفنّ والثقافة وتحصين متواصل للهويّة الصلبة ضدّ الرقّة والعطف والشفقة، وتعلو نبرة كراهية للعب واللهو، مراقبة للأزياء الغريبة وقصات الشعر وألوان الملبس، ثم هناك ـ لئلا أنسى ـ السمةُ الأبرز وهي إبعاد المرأة عن الفضاء العامّ ما أمكن. فلا شيء سوى محفل إسبارطيّ ينشط فيه ذكور أقوياء مستعدون للقتل.
كلّ شيء مصمم هنا لأن يتمنى المرء الموت. كتب أحد مؤرخي إسبارطة "صعب أن نمتدح موت إسبارطيّ، لأنّ الموت خلاص له من هذه المشقّات".
طبيعيّ أن يكون "السلاح زينة الرجال" هنا. طبيعيّ أن يُمجّد لا السلاح وحده بل كل ما يتعلق به من دمٍ نريقه وخصوم نمرّغ أنوفهم في وحل هزائمهم، وعصبيّة تجعل عشيرتنا أعلى كعباً من سائر العشائر، وطائفتنا اسماً آخر للحقيقة. لا يمكن لابن الثكنة أن ينشئ خطاباً بمعزل عن السلاح.
هذا الروح الإسبارطيّ حاضر في السياسة حضوره في نقاش المحللين وفي ندوات المثقفين، ثمة كراهية للتسامح مبطنة حيناً وسافرة أحياناً كثيرة، واحتقار للشفقة واللطف نتوارثه شارباً عن شاربٍ ولحية عن لحية، غلظة كانتْ ذات سمات بعثية من قبلُ فأصبحتْ بإعدادات دينيّة لكنّ الجوهر باقٍ على حاله.
الحزبُ المهاب "ومثله الفردِ المهاب والطائفة المهابة" عليه أن يكون مسلحاً بالكامل مرهوب الجانب. ولا فرق، فالمسلحون الذين يجمعون السلاح استعداداً ليوم القيامة الوشيك على ما يبدو، تماماً كالعشيرة التي تكدّس السلاح لحرب كونيّة ضدّ عشيرة أخرى بعد حادث سير أودى بحياة بقرة.
السلاح هو الحاكم في الثكنة، وإذا حدث أن ظهر جيل يحتقر السلاح وممجديه، فسنقتصّ منه بالسخرية أولاً فإن لم تنفع فسنقمعه عضلياً. لنتذكر حملات خير الله طلفاح على الفساتين القصيرة في السبعينات وحملات سمير الشيخلي على قصات الشعر في الثمانينات.
واليوم؟ من خالط الشباب وعرفهم جيداً، عرف أن الجزء الأكبر من نقمتهم على حياتهم وعلى العالم هو أنهم ليسوا إسبارطيين ولا يريدون أن يعيشوا في ثكنة.