كلام إنشائي

الصفحة الاخيرة 2022/05/31
...

حسن العاني 
 
تتضمن مادة اللغة العربية في مدارسنا مفردةً كانت تدعى (الإنشاء) قبل أن يصار إلى إبدالها بمفردة جديدة هي (التعبير)، والمفردتان كلتاهما تؤديان الغرض نفسه، وتقومان على مضمون واحد، ربما بحكم كوني (معلماً ومدرساً) لمادة اللغة العربية، أدرك أهمية درس الإنشاء، لأنه السبيل الوحيد الذي يكشف فيه التلامذة والطلبة عن مواهبهم الأدبية المبكرة في ميدان كتابة الخاطرة أو القصة أو الرواية أو الشعر أو المقالة ... الخ. 
من طريف مايحضرني وأنا طالب في الصف الخامس الإعدادي (1960/ 1961) إن مدرس اللغة العربية، المرحوم حسين التكريتي – هذا هو اسمه على ما أذكر ــ كان يولي درس الإنشاء عناية خاصة، إذ يطلب من كل واحد منا، الوقوف أمام زملائه وقراءة موضوعه، أعني إنشاءه، على أن تكون قراءته متأنية وعلى مهل مع تحريك الكلمات، أي نطق الحركات كاملة، وفي أثناء ذلك يقوم كل واحد منا بتدوين ملاحظاته، سواء تعلقت بالنحو واللغة أم بطبيعة معالجة الموضوع، وإلى أي حد هناك جماليات تعبير أسلوبية وبلاغية ..الخ، والحقيقة التي لم ندركها في تلك المرحلة، أن الأستاذ كان عبر درس الانشاء يراجع لنا ومعنا مادة اللغة العربية وخاصة القواعد..
الأمر الطريف في هذا المشهد، أن أحد الطلاب المشهود لهم بالنباهة والذكاء و (الشطارة) كان يعاني من مشكلة غريبة حقاً هي (حروف الجر) مع أنه متمكن جداً من مواد اللغة العربية الأخرى.. باختصار : حروف الجر عنده لا تجر الأسماء المفرد والمثنى والجمع ولا الأسماء الخمسة، أمر لم يستطع هو ولا الأستاذ ولا نحن فهمه ولا معالجته، وما حصل مرة وهو يقرأ إنشاءه أمامنا، إنه قرأ العبارة المعروفة (وأشار إليه بالبنان) بصيغة عجيبة (وأشار إليه بالبنين )، ابتسم المدرس وقال له [ يا فلان .. البنان ليست البنين]، وبروح المداعبة الموشومة بالاحترام رد على المدرس [استاذ الله يخليك ... هذي أول مره بحياتي يشتغل عندي حرف الجر ... ويطلع غلط !] ولم يستطع المدرس ولم نستطع كذلك منع أنفسنا من الضحك!
أعود مجدداً إلى مفردة الانشاء ، لأن الناس – مثقفهم وجاهلهم – وضعتها في منزلة لا تحسد عليها، وتعاملت معها بكثير من الاستخفاف، ولهذا تقول للإنسان الذي يتحدث حديثاً طويلاً، يفتقر إلى المعلومة والدقة والمنطق (كلامك هذا إنشائي)، أي بدون معنى، وهي شتيمة قد لا تكون مبطنة، والأدهى والأمر أن العراقيين عامةً باتوا يقولون (لم يبرع كثير من سياسيي البلد في شيء مثل براعتهم في الكلام الانشائي!)، وأنا أعترض اعتراضاً شديداً على ذلك، لأن في هذا القول إساءة للإنشاء!.