أحمد عبد الحسين
مع كثرة الأدبيّات الإسلامية المحذرة من الفتن والحاثة على تجنّبها، إلا أن تاريخنا في الحقيقة هو تاريخ "ملاحم وفتن". والملاحم قتالُ المسلمين الكفارَ؛ أما الفتنُ فقتال المسلمين بعضهم البعض. وبأدنى قراءة نعرف أنّ تاريخنا فتنٌ متواصلة لا تنقطع تتخللها أحياناً بضعة ملاحم قليلة نادرة. الأمة مفتونة منذ غياب نبيّها ولا تزال.
وغالباً يشار إلى الفتنة بمصطلحين دينيين أيضاً "الشقاق والنفاق"، والشقاق الاختلاف والخلاف والتنافر بينما النفاق إظهار أمر وإبطان آخر. وأظنّ أن الجمع بينهما في عبارة واحدة مضلل جداً وغير نزيه.
ذلك أن الشقاق طبيعيّ، لاختلاف الجبلّة الإنسانية ولانعدام الترادف إذْ ما من شيئين أو شخصين يمكن أن يكونا متطابقين، تماماً كانعدام الترادف اللغويّ، فما من مفردتين تدلّان على شيء واحد أبداً. وما يصدق على التدوين يصدق على التكوين كذلك.
الخلاف واقعٌ لا محالة، لكنّ النفاق المرذول المذموم حدث ويحدث حين أضمر الناس اختلافهم في أنفسهم وأبدوا توافقاً ظاهرياً، أي أن النفاق تحديداً هو إخفاء الشقاقِ وإظهار الاتفاق.
هذا لأنّنا لم نحسن التعامل مع اختلافنا، لم نعترف به أولاً ولم نصغِ إلى الصوت المخالف، ولم نتعاط مع "شقاقنا" بوصفه طبيعة إنسانية لا سبيل إلى تلافيها، بل هو أمر منقوش في الخريطة الجينية للكائن "ولا يزالون مختلفين" .
الهاربون من شقاقهم ساقطون في النفاق لا محالة. أما الشعوب التي تعترف بشقاقها وتعرضه تحت الشمس وتعرف كيف تديره وتستثمره وتصرفه فهي التي تخلصتْ من نفاقها.
مجتمعنا ـ ككل شعوب الأرض ـ منقسم على نفسه. بين دينيين وعلمانيين، مؤمنين وملاحدة، من يوالي إيران ومن يعارضها، بين ممتن لأميركا على صنيعها وبين من يريد قتالها، بين من يضع يده على السلاح وبين من يغلّب الدبلوماسية، بين موالٍ للحكومة ومعارض لها، بين متحزبين وكارهي الأحزاب. وهذا هو حظنا الطبيعيّ من الشقاق الذي نشارك به كل الأمم.
يحدث النفاق بالضبط حين نتستر على هذه الاختلافات ولا نشهرها علناً ولا نخضعها لنقاش عموميّ هو السبيل الوحيد لاجتياز الفتنة التي يمكن أن تأتي بها هذه الثنائيات المتضادّة.
الجمع بين الشقاق والنفاق مضلل ومغرض، لأنّ أهل الشقاق ليسوا أهل النفاق أبداً. أهل النفاق هم فقط أولئك الذين لا يعترفون بشقاقهم.